هو أحد رواد الفكر الإسلامي الحديث الذين برعوا في مجال الاقتصاد الإسلامي وشيدوا بعقولهم وأيديهم نهضة اقتصادية حقيقية آتت أكلها في العديد من الدول العربية والإسلامية.

 

* مولده ونشأته:

هو عيسى عبده إبراهيم عبد الملاك ولد 27-7-1907م، والده الدكتور عبده إبراهيم بن إبراهيم أفندي عبد الملاك من حي الظاهر بالقاهرة، ومن وجهاء القبط.

 

أسلم والده وحسنت سيرته وحرص على اتباع أحكام الإسلام في كلِّ حياته، وحرص على تربية أبنائه تربية إسلامية، ومحاسبتهم على نشاطهم العلمي يومًا بيوم، فكان يقرئهم القرآن في يوم الجمعة من كل أسبوع، ويمتحنهم فيما حفظوه، وكان يتحدث إليهم باللغة العربية الفصحى في كل شئونهم، ما كان يتصل منها بالدراسة أو في مختلف شئون الحياة اليومية، ويصلي بهم إمامًا، حين تجب الصلاة وهو بينهم، وفي مجال الرياضة البدنية وفلاحة البستان الصغير الملحق بالدار كان يشرف عليهم ويسهم بمقدار.

 

* عيسى (عبده) لا (ابنه):

يذكر الدكتور عبده إبراهيم أنه اختار هذا الاسم تحقيقًا لغاية عاش من أجلها وهي إثبات أن عيسى عليه السلام هو عبد الله لا ابنه، يقول رحمه الله: "جعلت من وجود هذا الولد شهادة تنبض بالحياة، وما بقيت له الحياة، بأن عيسى (عبده) وما هو (بولده) تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، فكلما ذكره الذاكرون حاضرًا أو غائبًا حيًّا أو ميتًا، كان ذكرهم هذا شهادة مني بين يدي الله عزَّ وجلَّ بأن عيسى (عبده) ولقد استجاب ربي لأول الدعاء، وها هو المخلوق الصغير حقيقة ماثلة بين يدي، وشهادة مني بما آمنت به، وأن الذي أسبغ عليّ هذه النعمة الكبرى لقادر على أن يمد في أجله وأن يهديه سواء السبيل، حتى يكون أهلاً لحمل هذه الشهادة، التي فرقت في حياتي الخاصة بين ضلال كنت فيه، وهداية أرجو أن تزيد.

 

إني أعلم من الله أنه ما خذلني ولا أسلمني لأمر لا أحبه، مذ سرى في أطرافي هذا الشوق إلى الوضوء، وأنا بعد صبي لا أميز بين عقيدة وأخرى، وأن قلبي يحدثني أن الله قد استجاب لكل ما دعوته، وسيكون من حياة هذا الصبي وذكره بين الناس نور يفيض عليّ في قبري، ويقضي عني بعض حق الله علي، حق الحمد والثناء عليه..".

 

وبالفعل حقق الله أمل هذا الوالد ورجاءه فيه، إذ صار عيسى عبده من أنشط دعاة الإسلام، وكان له أعظم الآثار في الدعوة إلى إبراز علم الاقتصاد الإسلامي، وقد انتهى إلى العمل أستاذًا بالمعهد العالمي للدعوة الإسلامية، وتوفي بها عام 1980م، وأكرمه الله تعالى فدفن بالمدينة المنورة.

 

* دراسته:

- درس د. عيسى عبده في مدرسة التجارة العليا، ومضى إلى إنجلترا ليدرس في جامعة مانشستر، ولما كانت أسئلة الاقتصاد تدور حول الفائدة، فقد كتب بحثًا عن تحريم الفائدة لأنها ربا، وأيّد أقواله بأحكام الدين، ورُفضت ورقة الإجابة بجملتها، واستدعته إدارة الكلية لتُبين له أن الجامعة ليست مكانًا لإظهار التعصب لدين دون آخر، وأن المطلوب منه أن يضع على الورق ما عرف من النظرية العلمية دون التأثر بنزعة أو عاطفة!!.

 

- حصل على الدكتوراه، وسنه سبعون عامًا، ولا تجرؤ الجامعات من أساتذتها من يجرؤ على مناقشة الأستاذ العالم إلا تلاميذه الذين زرع فيهم الشجاعة، ومنهم الدكتور إبراهيم هميمي، والدكتور علي لطفي (وزير المالية المصري السابق).

 

المشهد رائع.. الأستاذ على كرسي الطالب، وتلاميذه على كرسي الأساتذة، والمباراة حامية، وعيسى عبده يدور في الحلبة رائعًا وأستاذًا متمرسًا، وفارسًا ماهرًا يكر ويفر، ويناقش ويسأل، ويجيب ويصحح، والكل يتعلم منه حتى وهو في كرسي الطالب.

 

- عمل الدكتور عيسى عبده أستاذًا للاقتصاد الإسلامي بكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، وأستاذًا للحضارة الإسلامية بكلية الاقتصاد والتجارة بالجامعة الليبية، وأستاذًا لإدارة الأعمال بكليات الاقتصاد والتجارة بجامعة عين شمس وبالجامعة الليبية، وأستاذًا منتدبًا بكليات الهندسة بجامعة القاهرة والإسكندرية، وأستاذًا منتدبا بالمعهد العالي لشئون القطن، وبالمعهد العالي للدراسات الإسلامية.

 

- كما كتب مع أساطين العلم والفكر في مجلة (المسلمون) التي كان يصدرها الدكتور سعيد رمضان في الخمسينات، سلسلة بعنوان "حول السياسات الاقتصادية" تناول فيها حكمة التشريع الإسلامي في الناحية الاقتصادية، وحكمته في تحريم الربا، ودفع شبهات المرابين وحججهم القائلين بتبرير الربا وفوائده.

 

- كما تناول تاريخ المعاملات الربوية بين الغرب والشرق، ودور الاستعمار الغربي في انتشار الربا في العالم.

 

* جهوده وإنجازاته الاقتصادية:

وهب الله عزَّ وجلَّ الدكتور عيسى عبده ذكاءً وقَّادًا، وبديهة حاضرة، وفكرًا ناضجًا، وأسلوبًا حكيمًا، في عرض وجهة نظره، وبالرغم من أن القضايا الاقتصادية وبخاصة عمل البنوك تحتاج إلى الاختصاصيين لاستيعابها والإحاطة بجوانبها، ومتابعة تطوراتها العالمية، إلا أن الدكتور عيسى عبده له قدرة على تبسيط الموضوع في عرضه السهل بحيث يستوعبه حتى العامة من الناس، الذين يحضرون ندواته ويغشَوْن محاضراته، ويخرجون ولديهم الرغبة في الإسهام والمشاركة في تأسيس البنك الإسلامي، كي يتخلصوا من أوزار البنوك الربوية التي عمّت البلوى بها أرجاء العالم بما فيها العالم العربي والإسلامي، وصار التاجر المسلم يعيش في حرج كبير نتيجة تشابك المعاملات المالية المعاصرة مع النظم الربوية التي تسير عليها البنوك في شتى أنحاء المعمورة؛ لأن الأساس الذي قامت عليه هو أساس ربوي، صنعه يهود.. الذين كانوا يتاجرون بالعملة ويحترفون الصرافة، قبل قيام البنوك، والتي بدأت أعمالها بالإقراض الربوي للأفراد ثم المؤسسات ثم الدول، فكانت الأزمات تلو الأزمات، مما كان سببًا مباشرًا في قيام الحروب المدمرة، وانهيار الدول وإفلاسها.

 

إن الدكتور عيسى إبراهيم من الصفوة التي نافحت عن مفهوم الإسلام الأصيل في الاقتصاد خلال خمسين عامًا متصلة، لم يتوقّف خلالها عن العمل بالكلمة المكتوبة والمسموعة والمرئية، وبالرحلة في آفاق الأرض، بحثًا عن التجربة الاقتصادية الغربية، ومقاتلها وأخطائها، وبالرحلة في آفاق العالم الإسلامي، داعيًا إلى إنشاء المصارف الإسلامية، وحيثما وجَدَ تقبّلاً لدعوته، يمكث ويتريث ويقيم، حتى يحقّق خطوة على ذلك الطريق الشاق، فكانت له رحلات إلى السعودية والكويت ولبنان والعراق ودبي، وكانت له مشاركة في إنشاء أقسام الاقتصاد الإسلامي بالجامعات العربية والكليات المختلفة، من اقتصاد وقانون وإدارة، واشتراكه في مختلف مؤتمرات الاقتصاد التي عقدت بأبحاث ناضجة تكشف عن خبرة وافرة.. وقد انطلق من نقطة واحدة عاش حياته كلها لها، وهي الكشف عن فساد النظام الربوي، وآثاره الخطيرة على الاقتصاد الإسلامي، منذ تمكن النفوذ الأجنبي من التسلط على بلاد الإسلام.

 

وراح يهاجم ما يسمى بالاقتصاد السياسي الذي يخضع له المسلمون ويدرسونه على أنه علم، ويقول: إن هذا العلم الذي يقال له الاقتصاد السياسي لا يزيد على مرّ الأيام إلا غموضًا وبعدًا عن الحقيقة الاقتصادية.

 

وقد عاش وهو يدعو إلى أن يكون الاقتصاد الإسلامي هو المهيمن على كل ما عداه من الدراسات الاقتصادية الوضعية، والعناية بدراسة فقه الأموال، والحاجة إلى التركيز على دراسة الاقتصاد من القرآن والسُّنَّة.

 

ودعا إلى تأسيس بيوتات مالية تنتهج النهج الإسلامي في معاملاتها، وبدأ منفذًا لذلك في مصر؛ حيث أسس أول بيت إسلامي في (ميت غمر) ثم شارك في إنشاء بنك دبي الإسلامي عام 1974م، وذلك هو أول بنك في الساحة الإسلامية بمنطقة الخليج.

 

كما عمل الدكتور عيسى عبده على إنشاء كلية للاقتصاد الإسلامي في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض؛ لتكون نموذجًا للعالم الإسلامي كله.

 

يقول عنه مساعده العلمي الأستاذ أحمد إسماعيل يحيى: "إن عيسى عبده حجة زمانه وعميد أقرانه التقي النقي الورع، لا يزال نور علمه الرباني يشرق في عقولنا، ولا يزال صوته العميق يجلجل في محافل العلم وجامعات العالم، يقنع السامعين بنبراته الصادقة الهادئة، ويهدي الناس بما فتح الله به عليه من الرشد..".

 

* ثمار الجهود المخلصة:

أثمرت جهود الدكتور عيسى عبده مع إخوانه أساتذة الاقتصاد الإسلامي أمثال د. محمود أبو السعود، ود. محمد عبد الله العربي، ود. يوسف القرضاوي وغيرهم في إرساء قواعد علم الاقتصاد الإسلامي الحديث، وأصبح الاقتصاد الإسلامي مادة تدرّس في كثير من الجامعات، داخل الوطن العربي والإسلامي، وخارجه أيضًا، بل إن الكثير من الباحثين قدّموا رسائل في الماجستير والدكتوراه في الاقتصاد الإسلامي وفروعه المختلفة، ومنها أعمال البنوك الإسلامية المعاصرة.

 

وإن الظاهرة المبشّرة بالخير، هي انتشار البنوك الإسلامية في العالمين العربي والإسلامي، بل وفي بعض البلاد الأوروبية، بعد أن أثبتت نجاحًا باهرًا، وحققت أرباحًا من المال الحلال المستثمر بالطرق الشرعية البعيدة عن الربا المحرم، كما أن هناك العديد من المجلات والدوريات العلمية المتخصصة الصادرة عن البنوك الإسلامية المعاصرة، والتي يسهم في تحريرها أساطين علم الاقتصاد الإسلامي، فضلاً عن قيام الهيئات واللجان الشرعية للبنوك الإسلامية بتصحيح مسار البنوك، ومراقبة سير العمل فيها، وفق القواعد الشرعية وضبط معاملاتها وترشيدها كي تكون في الإطار الإسلامي المنشود، وهذا كله أدعى لبثِّ الطمأنينة في نفوس الشعوب المسلمة بأن الإسلام هو الحل لجميع مشكلاتها ومعضلاتها الاقتصادية، وهو الذي يوفر لها الأمن والاستقرار لتزدهر الحياة على هدىً من كتاب الله وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي ضوء ذلك أخذت الشعوب الإسلامية تتسابق في إنشاء هذه البنوك على الرغم من بعض العقبات والعراقيل التي يضعها أعداء الإسلام من المرابين وخاصة اليهود.

 

* أخلاقه العلمية:

وسع الدكتور عيسى عبده زملاءه وطلابه بأخلاقه العالية في الوقت الذي اتصف كثير من الأساتذة بالغرور والتعالي لا سيما على طلبة العلم، يقول الدكتور أحمد إسماعيل يحيى: "كان لا يطوي صدره على غلٍّ لأحد سواء كان من تلاميذه وزملائه أو من غيرهم، وحتى لو كان نجاحهم على حسابه، فقد كان وبكل ما يملك يدعمهم ويحفزهم ويصحح لهم، لا يمتنع عن إنصافهم حتى من نفسه، بل ويواسيهم بالكثير من قليل ماله، ويمنح جميع شكره بعد الله لهم إذا بذلوا له بعض عنايتهم".

 

* مؤلفاته:

خلف الدكتور عيسى عبده وراءه ثروة علمية كبيرة وبخاصة في مجال الاقتصاد الإسلامي تتمثل في بحوثه ومقالاته وكتبه ودراساته ومحاضراته وندواته ولقاءاته وأحاديثه بالمساجد والنقابات والاتحادات والصحف والمجلات التي يضيق المجال عن حصرها، والتي تمثل ثـروة عظيمـة في هذا المجال من حيث الـموضوع والسبق فيه.

 

من أهم هذه المؤلفات:

- بنوك بلا فوائد.

- لماذا حرم الله الربا؟.

- وضع الربا في البناء الاقتصادي.

- الفائدة على رأس المال: صورة من صور الربا.

- الربا ودوره في استغلال موارد الشعوب.

- مشروع قيام بنك إسلامي.

- العقود الشرعية الحاكمة للمعاملات المالية المعاصرة.

- الاقتصاد الإسلامي مدخل ومناهج.

- بترول المسلمين ومخططات الغاصبين.

- دراسات في الاقتصاد السياسي.

- التأمين بين الحلّ والتحريم.

- أثر تطبيق النظام الاقتصادي الإسلامي في المجتمع.

 

* علاقته بالإخوان:

عاش الدكتور عيسى عبده شبابه في حركة الإخوان المسلمين؛ حيث شارك في أنشطتها، وساهم مع إخوانه في دفع مسيرتها، والتقى الإمام الشهيد حسن البنا ورافقه في جولاته بالقرى، وعاصر افتتاح عدد من شُعب الإخوان المسلمين في أول عهدهم في الثلاثينيات، وظل على علاقته الوثيقة الحميمة بمؤسس جماعة الإخوان المسلمين طيلة حياته، وما زال أبناء عيسى عبده حتى يومنا هذا يحتفظون بوثيقة عزيزة عليهم؛ لأنها تربطهم بهذا الماضي المشرِّف، وهي عقد زواج الابنة الكبرى "ليلى عيسى عبده"، وذلك العقد الذي أمهره حسن البنا بتوقيعه شاهدًا على الزواج.

 

يقول الأستاذ عبد الحليم محمود: "عيسى عبده كان مدرسًا بمدرسة التجارة المتوسطة في القاهرة في ذلك الوقت، وكان بالطبع أكبر منا سنًّا، وقد أخبرنا الأستاذ المرشد أن عيسى عبده كان من أسرة مسيحية، أسلمت جميعها عن اقتناع، وكان الأستاذ المرشد يحب عيسى عبده، ويقربه ويؤثره، ويقدمه دائمًا للحديث إلى الإخوان؛ لأنه كان محاضرًا لبقًا، ومحدثًا طويل النفس، وكان عيسى مندمجًا في منظمات الإخوان المسلمين، فكان أحد أعضاء الكتائب، إلا أنه لم ينتظم في سلك الجوالة، وكنا نحبه ونُقبل عليه، وكان يبادلنا هذا الحب والإقبال".

 

* وفاته:

توفي الدكتور عيسى عبده بعد حياة حافلة بالعطاء والبذل العلمي والدعوي والخلقي والإنساني؛ في مدينة الرياض بالمملكة العربية السعودية يوم 9 يناير 1980م، وقد تمَّ نقل جثمانه إلى مدينة الرسول علية الصلاة والسلام "المدينة المنورة"؛ حيث دفن بالبقيع حسب أمنيته.

 

رحم الله الدكتور عيسى عبده رحمة واسعة، فقد ملأ الدنيا وشغل الناس بعلمه الغزير واجتهاداته الواسعة التي سدت ثغرة كبيرة في الفكر الإسلامي، وأفنى عمره على مدى نصف قرن من الزمان في إنشاء نهضة اقتصادية إسلامية حقيقية، فخليق أن تُحيى ذكراه، وتقتني الدولة كتبه، وتتولى نشر أبحاثه ومؤلفاته وكتبه ومحاضراته وأحاديثه وتسجيلاته؛ حتى يعمَّ نفعها كما أراد هو في حياته.

 

* أهم المصادر:

- د. عرفات كامل العشي: رجال ونساء أسلموا، الجزء الأول- المكتب المصري الحديث.

- عبد الله العقيل: من أعلام الدعوة والحركة الإسلامية المعاصرة، دار البشير 2008م.

- مجلة المسلمون، يوليو 1953م العدد التاسع السنة الثانية.

- مجلة الدعوة 1980م، مقال بعنوان "فارس العلم الذي فقدناه".

- محمود عبد الحليم: الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ، الجزء الثاني.