هو أحد العلماء المحدثين الذين لمع نجمهم في القرن العشرين، وتركوا آثارًا جليلة وأعمالاً نافعة لا تزال شاهدة على صدقهم وإخلاصهم ورسوخ أقدامهم في علوم الشريعة، وسعة اطلاعهم وفقههم في دين الله.

 

إنه الشيخ حسنين محمد حسنين مخلوف مفتي الديار المصرية الذي اشتهرت فتاواه بالدقة والجرأة والجهر بالحق.

 

مولده ونشأته

ولد الشيخ حسنين مخلوف في حي "باب الفتوح" بالقاهرة في 16 رمضان 1307هـ مايو 1890م، أتم حفظ القرآن الكريم قبل سنِّ العاشرة.

 

نشأ في بيت كريم وأسرة محافظة، فأبوه محمد حسنين مخلوف من كبار علماء الأزهر وعلمائه المعروفين، وممن تولى إصلاحه، وترقى في المناصب الأزهرية حتى اختير وكيلاً للجامع الأزهر، ومديرًا للمعاهد الأزهرية.

 

ينسب لأبيه أنه أول من بدأ في إنشاء مكتبة (الأزهر) وتنظيمها.

 

حياته العلمية

التحق الشيخ حسنين مخلوف بالأزهر وهو في الحادية عشرة من عمره، وتلقى العلم على أيدي مجموعة من كبار العلماء في مصر، من بينهم الشيخ عبد الله دراز، والشيخ يوسف الدجوي، والشيخ محمد بخيت المطيعي، بالإضافة إلى ما كان يتعلمه على يد والده الشيخ محمد مخلوف رحمه الله.

 

حصل على الشهادة العالمية من الأزهر عام 1914م، ثم التحق بمدرسة القضاء الشرعي في قنا، وتخرج فيها 1916م، وتنقل بين عدة محاكم حتى عُيِّن رئيسًا لمحكمة الإسكندرية الشرعية 1941م، ثم عين نائبًا لرئيس المحكمة العليا الشرعية 1944م، ثم تولى منصب الإفتاء 1946م وظلَّ به حتى مايو 1950م ثم عاد إليه في عام 1952م واستمر فيه عامين فقط، ثم أصبح رئيسًا للجنة الفتوى بالأزهر الشريف لفترة طويلة.

 

اختير عضوًا في هيئة كبار العلماء بالأزهر عام 1948م، ومنح كسوة التشريف العلمية، واختير عضوًا لمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، وتولى رئاسة جمعية البحوث الإسلامية، كما تولى رئاسة جمعية النهوض بالدعوة الإسلامية.

 

أسهم الشيخ مخلوف في إصلاح القضاء الشرعي، وتعديل بعض القوانين للمحاكم الشرعية والمجالس الحسبية ومحاكم الطوائف المحلية.

 

بعد انتهاء مدة خدمته القانونية اتجه لخدمة المسلمين من خلال الدروس التي كان يلقيها يوميًّا في المساجد الكبيرة، ومنها مسجد الحسين بالقاهرة، ومن خلال الفتاوى التي كان يصدرها وتنشرها الصحف.

 

حصل على جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام عام 1983م وشارك في تأسيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وكان عضوًا في رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، كما حصل على جائزة الدولة التقديرية للعلوم الاجتماعية عام 1982م.

 

أخلاقه

شهد المقربون بالشيخ مخلوف له بدماثة الأخلاق ولين الموطئ وحسن المعاشرة، يقول عنه المستشار عبد الله العقيل: "كان الشيخ يغيث الملهوف، ويعين على نوائب الدهر، في وقت كانت تعد فيه المروءة جريمة لا تغتفر، ويلحق بصاحبها الأذى والعذاب.

 

لكن من فطروا على مكارم الأخلاق والسجايا الكريمة لا ينتكسون حين يفسد الناس، ولا يديرون ظهورهم لمن جاءهم طلبًا للعون والمساعدة، ولو كلفهم ذلك الضيق والعنت وأوردهم موارد الخطر.

 

طرق بابه وهو يومئذ مفتي الديار المصرية واحد من كرام شباب الإخوان المسلمين يدعى "محمد الصوابي الديب" من زملائي في كلية الشريعة، وكان مطاردًا من الشرطة التي كانت تبحث عنه في كل مكان، وكانت جريمته الكبرى أنه من الدعاة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وطلب من الشيخ مخلوف أن يحميه ويخفيه من عيون الشرطة، وكان الطلب مفاجأة وتلبيته محفوفة بالمخاطر، ولم تكن بين محمد الصوابي والشيخ مخلوف معرفة سابقة، وفوق ذلك كانت جماعة الإخوان المسلمين تعيش محنة قاسية بعد صدام حركة الجيش معها عام 1954م ، وتمتلئ بهم السجون، ويعاني أعضاؤها العذاب الأليم، وكان مجرد الانتساب إليها يكلف صاحبها الاعتقال والتنكيل، كما أن تقديم العون لأحد أفرادها يجلب للمعين السجن والتعذيب.

 

غير أن الشيخ الجليل لم يكن ممن يقيد الخوف مروءتهم فلا يقدمون عليها خشية سوء العاقبة، وكما كان يخضع بالحق غير هياب ولا وجل، كان يقدم على فعل المكرمات ولو كان ثمنها حريته، وهذا ما فعله الشيخ الكبير.. لقد آوى الشاب المطارد ثمانية أشهر في بيته، ودبر له وظيفة يعمل بها كسكرتير خاص عنده، وهو يعلم أن ما قام به لو علمته السلطات الحاكمة لتعرض إلى ما لا تحمد عقباه بعد أن تجاوز عمره الستين، ولحل به ما يحتمله جسمه الواهن من العذاب والتنكيل، ولكن الله سلَّم، ومرت عملية اختفاء هذا الشاب في هدوء دون أن يعلم بها زبانية النظام، ولم يلحق الشيخ ولا أي فرد من أسرته أي مكروه أو أذى".

 

جرأته في الحق

عرف الشيخ مخلوف رحمه الله بجرأته في الحق، ودفاعه عن الشريعة الإسلامية ضد أعدائها والمناوئين لها، فقد سجل له التاريخ مواقف جليلة خاضها ضد الشيوعية قبل ثورة يوليو 1952م، وكانت الأفكار الشيوعية قد تسربت إلى الناس عبر وسائل الإعلام المختلفة، وخدع بها بعض الناس، فأعلن الشيخ أن الشيوعية بعيدة كل البعد عن الإسلام.

 

وحين طُلب منه أن يعلن أن الإسلام اشتراكي وأن الاشتراكية نابعة من صميم الإسلام، أبى الشيخ ذلك، وأعلن أن الإسلام لا يعرف الاشتراكية بمفهومها الغربي، ولكنه يعرف العدل والمساواة والتكافل حسبما جاء في القرآن الكريم.

 

جرت عليه هذه المواقف الخصومة والعداوة من ذوي السلطان الذين حاربوا الشيخ وضيقوا عليه ومنعوا الصحف من أن تنشر له أي شيء، فاكتفى بمجلة الأزهر يعلن فيها ما يراه حقًّا.

 

قالوا عنه

وقع الشيخ مخلوف رحمه الله من العلماء موقع الثناء والعرفان، وعرفوا قدره وجهاده، فقال عنه الدكتور محمد رجب البيومي: "الشيخ حسنين مخلوف كان ثبتًا مكينًا في كل ما أفتى به، كما كان جريئًا لا تأخذه في الحق لومة لائم، فحين اتسع الحديث عن الشيوعية عقب قيام الثورة، وكتب المغالون في تمجيدها وكأنها المعجزة الإنقاذ مما يتهدد العالم من أهوال، وتحرشوا في صحفهم المأجورة بكل من يبدي رأيًا معارضًا، بل إن أحد المنتسبين للإسلام جاهر بأن الشيوعية من صميم مبادئ الإسلام.

 

حين انتشر هذا اللغط ووجه إلى الشيخ حسنين مخلوف سؤال عن حقيقة الشيوعية ومدى صلتها بالإسلام، لم يتوان لحظة عن أداء واجبه الديني، وأعلن فتواه في الأهرام صريحة مجلجلة.

 

وهنا تدفقت البذاءات الجاهلية تنوش الشيخ في غير تحشم، بل إن أحد المهاجمين أكثر من وصف الشيخ "متلوف" وهو البطل المسرحي لمسرحية مترجمة عن موليير، معرضًا بالشيخ الفاضل فلم يأبه الشيخ بما يرى ويقرأ".

 

وقال عنه الأستاذ عبد الله الطنطاوي: "فضيلة الشيخ حسنين مخلوف من بقايا السلف الصالح الذين تحدث عنه الرسول القائد صلى الله عليه وسلم، عاش مائة عام حافلة بجلائل الأعمال، ملأها علمًا وعبادة ودعوة إلى الله على بصيرة، وتصديًّا لأصحاب الأهواء والمذاهب الهدامة، ولأدعياء العلم والفتوى، وللسائرين في ركاب الطغيان، ولم يأبه لما أصابه، ولما قد يصيبه جراء مواقفه الجريئة الصاعقة بالحق، وكان بذلك كالإمام أحمد بن حنبل في تصديه للمبتدعة، وللسائرين في ركاب ذوي الأهواء من أدعياء العلم.. وهكذا كان شيخنا الجليل في عصرنا الذي اضطربت فيه العقائد، وزلزلت النفوس وطأطأت الهامات للجبارين، فبقي شامخًا، معبرًا عن الإسلام الحق، الإسلام المصفى من كلِّ ألوان البدع الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية".

 

ذكرياته مع الإخوان المسلمين

عاصر الشيخ مخلوف دعوة الإخوان المسلمين منذ نشأتها وواكب أحداثها وخالط قادتها، فكان الناصر لأفكارها، المعضد لمبادئها، المبارك لخطواتها.

 

يقول الشيخ حسنين مخلوف: "لقد كان الإخوان المسلمون قائمين بأمر الدعوة الإسلامية خير قيام، وفي هذا الكفاية، وحسبي أن أقول بعد ذلك ما أحوجنا إلى القيام بواجب الدعوة الإسلامية على ما يحقق العقيدة الإسلامية، ويدعو إلى العمل الصالح والتخلق بالأخلاق الإسلامية الفاضلة، وإلى كراهية الفسوق والعصيان، والتحلل من الأحكام الوضعية، وإلى نبذ ما تهواه الأنفس، وإيثار ما قضى به الدين الحنيف.

 

إن دعوة الإخوان المسلمين هي دعوة الاحتكام إلى كتاب الله وسنة رسوله الكريم، والقيام بواجب الدعوة على ما يحقق العقيدة السليمة والأخلاق الفاضلة، وهذه الدعوة بالتالي واجب المسلمين جميعًا، فهم جميعًا مكلفون بالقيام بالواجبات الشرعية تمامًا، وتنفيذ أحكام الله في كل شأن حتى نكون مسلمين حقًا.

 

كما أنه من الواجب أن يتخلق العامة والخاصة والشباب الناهض بالأخلاق الكريمة التي دعا إليها الإسلام.

 

وقد دعونا وندعو إلى وجوب اجتماع المسلمين وتعاونهم وتناصرهم وجهادهم في الحق تحقيقًا للأخوة التي نصَّ عليها القرآن في قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات: من الآية 10)، فيجب أن تكون الأخوة بين المسلمين هي الأساس الأول وهي المصدر لكل خير.

 

وألا يكون بين المسلمين تفرق وتشتت وعداوات ومكائد حتى لا يستمر أعداء الإسلام في الكيد له وهم الآن يكيدون للإسلام أشد الكيد في كل شيء، وعلى رأسهم الشيوعيون المارقون خذلهم الله وأبطل كيدهم... آمين".

 

مع الإمام البنا

عرف الشيخ مخلوف الإمام البنا عن كثب، ولمس صدقه وإخلاصه وغيرته على الإسلام، فأخذ على عاتقه تأييده ومناصرته ومباركة دعوته.

 

يقول رحمه الله: "إن ذكرياتي عن قادة الجماعة ولا سيما الشهيد حسن البنا وخليفته المرحوم حسن الهضيبي لا تزال حية في نفسي، كأنها جزء من حياة أصحابها، رحمهم الله وأفسح لهم في جناته.

 

لقد كنت أقيم في حلوان وكان الإمام الشهيد حسن البنا يقدم إلى حلوان كل أسبوع، فكان يبدأ عمله بالحضور إلى منزلي، ثم يجتمع مع الإخوان في مكانهم إلى أن يصلوا الظهر، ثم يعود للاستراحة في بيتي، ويستمر معي في اجتماع مثمر وحديث شهي إلى آخر النهار ثم يعود إلى القاهرة رحمه الله رحمة واسعة.

 

ونتيجة هذا القرب أستطيع أن أحكم على الإمام البنا بأنه كان مسلمًا حقًّا متخلقًا بأخلاق الإسلام.. لقد كان جادًّا في عمله في الدعوة الإسلامية، حريصًا على إحياء التراث الإسلامي بكلِّ سبيل.

 

وبإيجاز أستطيع أن أقول إنه كان علما من أعلام الإسلام في دينه وخلقه ومعاملاته مع الخلق، وفي حكمه على الأشياء، وفي معرفة أحوال الوقت، وما يجري فيه من أحداث، وكان صبورًا جدًّا متمكنًا من نفسه، لا يقدم على شيء إلا بتمهل عظيم، وبإخلاص قوي، وهذا خلاصة رأيي فيه.

 

الله يعلم أن البلاد المسلمة قد خسرت بموته خسارة عظيمة، ولكنه القضاء الذي يجب على المسلمين الرضا به، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا".

 

مع المستشار الهضيبي

أما عن علاقته بالمستشار الهضيبي، فقد توطدت الصداقة بينهما من خلال العمل المشترك للإسلام، ثم توطدت أكثر بالمصاهرة؛ حيث تمَّ الزواج في الثلاثينيات بين ابن الشيخ مخلوف وابنة المستشار الهضيبي، وذلك حين كان المستشار حسن الهضيبي مديرًا بالإدارة القضائية في وزارة الحقانية، وكان الشيخ مخلوف إذ ذاك مفتشًا بالمحاكم الشرعية وعضوًا في لجنة التفتيش بالوزارة؛ حيث كان يجتمع به يوميًّا بمكتبه في وزارة الحقانية.

 

وقد استمرت العلاقة وطيدة بين كل منهما إلى إن ابتلي المستشار الهضيبي بالسجن على يدِّ عبد الناصر.

 

مؤلفاته:

كرس الشيخ مخلوف رحمه الله حياته لخدمة الإسلام والمسلمين، وأثرى المكتبة الإسلامية، وله العديد من المؤلفات القيمة في مختلف العلوم، تأليفًا وتحقيقًا وشرحًا.. ومن هذه المؤلفات:

- كلمات القرآن تفسير وبيان؟

- صفوة البيان لمعاني القرآن.

- آداب تلاوة القرآن وسماعه.

- بلوغ المسئول في مدخل علم الأصول.

- أضواء من القرآن والسنة في وجوب مجاهدة جميع الأعداء

تفسير سورة يس.

- من وحي القرآن والسنة.

- حكم الشريعة في مأتم ليلة الأربعين.

- الدعوة التامة والتذكرة العامة.

- الرفق بالحيوان في الشريعة الإسلامية.

- شرح الشفا في شمائل صاحب الاصطفا.

- فتاوى شرعية وبحوث إسلامية.

- المواريث في الشريعة الإسلامية.

- شرح الوصايا النبوية.

- نفحات زكية من السيرة النبوية.

- أدعية من وحي القرآن والسنة.

- تفسير سورة القدر.

- تفسير آية الكرسي وسورة الإخلاص وسورة الضحى.

- النصائح الدينية والوصايا الإيمانية.

 

وفاته:

توفي الشيخ الجليل حسنين مخلوف رحمه الله في 20 رمضان 1410هـ أبريل 1990م عن عمر تجاوز المائة عام، ودفن في القاهرة.

 

أهم المراجع:

- المستشار عبد الله العقيل: من أعلام الحركة الإسلامية المعاصرة.

- الدكتور عبد الحليم عويس: مقال بعنوان "الشيخ حسنين مخلوف يتحدث إلى الدعوة عن ذكرياته مع الإخوان المسلمين"، مقال منشور بمجلة الدعوة.

- خير الدين الزركلي: الأعلام.

- الدكتور محمد رجب البيومي: النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين.