منذ أن تكالبت على بلاد الإسلام عوامل الهدم الخارجية والداخلية؛ الخارجية المتمثلة في أعداء الإسلام من صهيونية وشيوعية، والعوامل الداخلية المتمثلة في الاستبداد السياسي والفساد الأخلاقي والبعد عن الجادة، تضافرت كل هذه العوامل مجتمعة، واستطاعت أن تنحي الإسلام عن إدارة شئون الحياة، وحاصرته حتى ألجأته إلى الزوايا والتكايا يقوم فيها بعض العجائز ومن لا إرب لهم في الدنيا بأداء طقوس وشعائر لا روح فيها ولا حياة، وأنجبت جيلاً خاضعًا للتغريب والغزو الفكري متبنيًا للعلمانية.

 

وتبلورت المشكلة بصفة عامة في التناقض الذي يحكم الإنسان من قيم ومعتقدات تحكمه داخليًّا بالفعل، وبين نظم غربية سائدة في المجتمع لا تَمتُّ للإسلام بصلة، وبدأ فصل الدين عن حلبة الحياة، وهذا ما يطلق عليه بالعلمانية ومن شعاراتها: "دع ما ليقصر لقيصر، وما لله لله".

 

ثم قيَّض الله لهذه الأمة على رأس القرن الرابع عشر الإمام الشهيد حسن البنا، لينفض غبار النوم عن أعين المسلمين، ويُفَتِّحها على أن الإسلام نظام شامل، يتناول مظاهر الحياة جميعًا فهو دولة ووطن، وحكومة وأمة، وخُلق وقوة، ورحمة وعدالة، وثقافة وقانون أو علم وقضاء، ومادة وثروة أو كسب وغنى، وجهاد ودعوة، أو جيش وفكر، كما هو عقيدة وعبادة صحيحة، سواء بسواء.

 

فليس الشأن أن نرتجل الحلول، ونواجه الظروف بالمخدرات والمسكنات التي يكون لها من رد الفعل ما ينذر بأخطر العواقب، ويجعل المسلمون يتخبطون بين نظم وضعية، ولكن المهم أن ننظر إلى الأمور نظرة شاملة محيطة، وأن نردها إلى أصل ثابت تستند إليه، وترتكز عليه، ولن يكون ذلك الأمر إلاّ بالنظام الإسلامي الشامل الدقيق، وفيه خير السداد، وصدق الله إذ يقول: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ (النحل: من الآية 89)، وقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدًا كتاب الله وسنتي".

 

وعلى ذلك لم تكتفِ جماعة الإخوان المسلمين بالتوجيه والإرشاد أو بالدعوة بالبيان فحسب، وإنما زاوجت بين ذلك وبين التطبيق العملي ما وجدت إلى ذلك سبيلاً.

 

أي أن حركة الإخوان المسلمين كانت حركة شاملة في جميع مجالات الحياة، استمدت شموليتها من شمولية الإسلام، ونظرته الشاملة المحيطة بكل دقائق الحياة.. وعليه كان الاتجاه إلى المجالات الاقتصادية؛ حيث إنها عصب الحياة، ومحور تقدم الأمة ورخائها وتنميتها ومصدر حياة الإنسان حياة كريمة طيبة.

 

وفي ذلك يقول الإمام الشهيد حسن البنا: "إن هذه الأوضاع (أي أوضاع المجتمع ككل)، وإن امتزجت بها المعاني السياسية إلاّ أنها في أغلب صورها ودوافعها ونتائجها تعاليم وأوضاع اقتصادية، ولهذا كان لا بد لنا من أن نختار لونًا من هذه الألوان أو من غيرها، إن استطعنا؛ لنعيش في حدود وضع معلوم له خصائصه ومميزاته، يحدد أهدافنا الرئيسية، ويرسم لنا طريق العمل للوصول إلى هذه الأهداف.

 

وفي ضوء المفاهيم والتوصيات السابقة؛ اتجه أهل الاختصاص والخبرة من جماعة الإخوان المسلمين منذ فترة الأربعينيات بالتنفيذ في التراث الإسلامي؛ لاستنباط معالم الاقتصاد الإسلامي وأسسه ونظمه، وسبل تطبيق ذلك في حلبة الحياة، موقنين أن التراث مليء بالدرر العلمية التي تمثل الإطار الفكري للنظام الاقتصادي الإسلامي.

 

وكان من بين الرعيل الأول لعلماء جماعة الإخوان المسلمين الذين أسهموا في وضع قواعد، وأسس النظام الاقتصادي الإسلامي:

 

- الأستاذ الدكتور/ محمود أبو السعود

- الأستاذ/ طاهر عبد المحسن

- الأستاذ/ عبد القادر عودة

- الأستاذ الدكتور/ أحمد النجار

- الأستاذ الدكتور/ عبيد عبده

- الدكتور/ شوقي إسماعيل شحاتة

- الأستاذ/ حمزة الجميعي

- الأستاذ/ يوسف كمال

ولقد عاون هؤلاء الاقتصاديين فريق من رجال الفقه والفكر الإسلامي منهم:

- فضيلة الشيخ/ محمد الغزالي

- فضيلة الشيخ/ سيد سابق

- فضيلة الشيخ/ يوسف القرضاوي

وسوف نورد في هذه الدراسة المختصرة رؤية الإمام البنا في قواعد الاقتصاد الإسلامي وتوصياته في مجال الإصلاح الاقتصادي، وكيف طبَّقت جماعة الإخوان المسلمين تلك القواعد والتوصيات، من خلال إنشاء المنشآت والمشروعات والشركات والمؤسسات، ودورها في تحقيق التنمية الشاملة للمجتمع؟

 

قواعد الاقتصاد الإسلامي من خلال رؤية الإمام حسن البنا

لا يوجد ما يُسمى بالنظام الاقتصادي الخاص بالإخوان المسلمين، بمعنى أنهم هم الذين أوجدوا هذا النظام، بل هناك أساسيات للاقتصاد الإسلامي واردة في القرآن الكريم والسنة المطهرة وكتب الفقه التي بيَّنت وحدَّدت المفاهيم من القواعد والأسس العامة التي تحكم أوجه النشاط الإنساني كافة، بما فيها النشاط الاقتصادي، والذي تميَّز عن النظم الاقتصادية الوضعية، بالإضافة إلى ذلك يوجد بعض التفصيلات، والتي تحفظ للشريعة الإسلامية عنصر الثبات والاستقرار مع المرونة التي تمكِّنها من الصلاحية للتطبيق في كل عصر ومصر.

 

وقامت جماعة الإخوان المسلمين ببعث الحياة في هذا النظام وتجليته وتوضيحه وتبيينه في غير غموض ولا لبس ولا إبهام، كالشمس في رابعة النهار؛ ذلك أن الجماعة قامت في وقت كان العالم الإسلامي بما فيه مصر محتل عسكريًّا، وتتقاذفه الأفكار الاقتصادية، وتتضارب فيه النظم والآراء العصرية من رأسمالية واشتراكية وشيوعية، فوجدت أن الخير كل الخير أن تتبرأ الأمة من هذه الألوان كلها، وأن تركِّز حياتها الاقتصادية على قواعد الإسلام وتوجيهاته العليا، وتستمد منه وتعتمد عليه، وبذلك تسلم من كل ما يصاحب هذه الآراء من أخطاء، وما يلصق بها من عيوب وتحل مشاكلها الاقتصادية. 

 

وقد لخص الإمام الشهيد حسن البنا رؤية الإخوان المسلمين للنظام الاقتصادي في عدة قواعد من أهمها ما يلي(1):

 

1- اعتبار المال لصالح قوام الحياة، ووجوب الحرص عليه، وحسن تدبيره وتميزه.

 

2- إيجاب العمل والكسب على كل قادر.

 

3- الكشف عن منابع الثروات الطبيعية، ووجوب الاستفادة من كل ما في الوجود من قوى ومواد.

 

4- تحريم موارد الكسب الخبيث.

 

5- تقريب الشقة بين مختلف الطبقات، تقريبًا يقضي على الثراء الفاحش والفقر المدقع.

 

6- الضمان الاجتماعي لكل مواطن، وتأمين حياته، والعمل على راحته وإسعاده.

 

7- الحث على الإنفاق في وجوه الخير، وافتراض التكافل بين المواطنين، ووجوب التعاون على البر والتقوى.

 

8- تقرير حرمة المال، واحترام الملكية الخاصة، ما لم تتعارض مع المصلحة العامة.

 

9- تنظيم المعاملات المالية بتشريع عادل رحيم، والتدقيق في شئون النقد.

 

10- تقرير مسئولية الدولة في حماية هذا النظام.

 

وتعتبر هذه القواعد الإطار الفكري للنظام الاقتصادي الإسلامي والتي يجب أن تؤخذ في الاعتبار وضع السياسات الاقتصادية للدولة الإسلامية.

 

توصيات الإمام حسن البنا في مجال الإصلاح الاقتصادي

لقد وضع الإمام البنا مجموعة من التوجيهات أو التوصيات الاقتصادية المستنبطة من مصادر الشريعة الإسلامية، والتي تمثل الإطار العام للمنهج الإسلامي للإصلاح الاقتصادي وتحقيق التنمية الشاملة للمجتمع، منها ما يلي(2):

 

1- حظر استخدام السلطة والنفوذ للحصول على مغانم مالية، أو نحوها دون وجه حق، ومن أمثلة ذلك: الرشوة والهدايا للحكّام والأمراء واستغلال النفوذ والسلطان للكسب الحرام، والانتفاع الشخصي من موارد الدولة.

 

2- استغلال النقد، واعتماده على رصيد فعلي من الذهب، وكان في ذلك الوقت يقصد لذلك تحرير النقد المصري من التبعية للخزانة البريطانية... وكأنه يحذِّر من أن يكون النقد الوطني معتمدًا على النقد الأجنبي من دولار ونحوه مهما كان هذا الأجنبي.

 

3- تمصير الشركات الأجنبية وإحلال رؤوس الأموال الوطنية محل رؤوس الأموال الأجنبية، وكأن المثال الواضح في ذلك الوقت: قناة السويس والبنوك الأجنبية.

 

4- حسن استغلال الثروة الطبيعية، بما يحقق للوطن الخير مثل الخيرات المدفونة في الأرض والمياه والهواء، والاهتمام بالمشروعات الوطنية الكبرى التي تهتم بالبنية الاقتصادية الأساسية، وضرورة غزو الصحراء وعدم الاعتداء على الأرض الزراعية.

 

5- التحول إلى الصناعة؛ لتسهم في التنمية الشاملة للمجتمع وعدم الاعتماد فقط على الزراعة كمورد أساس رصيد دولة.

 

6- تشجيع الملكيات الخاصة الصغيرة ودعمها؛ حتى يشعر الفقراء المعدومون بأنه قد
أصيح لهم في هذا الوطن ما يعنيهم أمره، ويهمهم شأنه، وأن توزع أملاك الحكومة على هؤلاء الصغار حتى يكبروا؛ والحد من سلطان الملكيات الكبيرة التي تؤثر على الحكم والبيئة.

 

7- تنظيم وترشيد الضرائب لتحقق التنمية الاجتماعية وإعفاء الفقراء منها، وتطبيق نظام زكاة المال التي تجني من الأغنياء، فترد على الفقراء وتحقق الخير للجميع.

 

8- محاربة الربا والقضاء على كل تعامل على أساسه، ولا سيما بعد أن أخذت بعض النظم الاقتصادية بمنعه، ولقد ثبت يقينًا بأن دولاب الاقتصاد يمكن أن يسير بدونه.

 

9- تشجيع الصناعات اليدوية المنزلية لتحقيق التنمية الذاتية للعائلات الفقيرة، ومن هذه الصناعات: الغزل والنسيج، الصابون، العطور، المربات، ويمكن تشغيل النساء والبنات والأولاد فيها بعض الوقت.

 

10- الاهتمام بالضروريات والحاجيات والتقليل من الكماليات وتحريم الإسراف والتبذير والترف الذي يؤدي إلى تبديد الموارد بدون عائد نافع ومشروع.

 

تعقيب:

لم يكن الإمام البنا رحمه الله من المتخصصين في الإصلاح الاقتصادي، ولكن بفكره الإسلامي ومعايشته لآلام الوطن الاقتصادية، وما يعانيه من الاحتلال الأجنبي وسيطرة قلة من الأغنياء على الاقتصاد والسياسة وانتشار الفساد الاقتصادي مثل الرشوة والربا والترف والبذخ والمظهرية... وضع مجموعة من التوصيات الاقتصادية التي تصلح علاجًا للمشاكل الاقتصادية العالمية، والتي تدور حول الآتي:

 

* تطهير المعاملات الاقتصادية من الرشوة ونفوذ الحّكام والبذخ والترف والربا والمكوس (الضرائب الظالمة) وكل صور أكل أموال الناس بالباطل.

 

* ضبط النظام النقدي في إطار الغطاء الذهبي للمحافظة على قيمة النقد.

 

* تحرير الاقتصاد القومي من التبعية المطلقة وتأمين من النفوذ الأجنبي.

 

* تشجيع الملكيات الخاصة الصغيرة، وأن تأخذ دورها في التنمية الشاملة.

 

* الالتزام بالأولويات الإسلامية: الضروريات فالحاجيات.

 

* تطبيق نظام زكاة المال، وترشيد وإصلاح النظام الضريبي ليحقق العدالة الاجتماعية.

 

* الاستفادة بالموارد الطبيعية، والتحول إلى الصناعة؛ لتنويع مصادر الدخل القومي.

---------

1- المصدر: مجموعة من رسائل الإمام الشهيد حسن البنا، رسالة النظام الاقتصادي، صفحة 253 وما بعدها.

2- المرجع السابق، من 262 إلى 268- بتصرف.

---------

* أستاذ المحاسبة بجامعة الأزهر.