إذا ذكرنا تربية الأبناء والتعب المضني، وجدنا أعيننا وقلوبنا تحنو تجاه الأم، وبذلك كانت الأم هي الفارس العلني والمعروف إلينا جميعًا، ووجدنا أنفسنا نُنحي جانبًا دور فارس آخر- الذي قد لا يعطيه البعض منا الاهتمام الكبير- إنه دور الأب في التربية، فهو الذي يعطي اللمسات النهائية لتلك التربية، التي تقوم بها الأولى؛ ولذلك استحق أن يوصي به الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم بعد الوصية بالأم ثلاث، فقال: "ثم أبوك ثم الأقرب فالأقرب".

 

الأب المشحون

نعم فالأب مشحون بالعاطفة، يتلقاه أطفاله بعد عناء يوم كد وجهد، وقد حمل لهم أشواق المحبة؛ حتى يدير مفتاح بيته ويلقي روحه بالسلام على زوجه وتحتضن أذرعه بحنان الأبناء الصغار، الذين تدور أعينهم حول ما أتى به الأب مما يحلو لهم أكله أو اللعب به، ثم يضمهم إلي صدره، فينسى همومه وهم ينادونه بقلوبهم البريئة "ربنا يخليك لينا يا بابا".

 

هذه صورة لأب قد انتوى قبل دخوله إلى البيت ألا يكون ظالمًا لأبنائه الذين يتمنون رجوعه بفارغ الصبر، ويتهللون بوجوده لأنهم بحكم أنه هو الراعي الأول للبيت، فهم يأخذون راحتهم في ظل الحب المتدفق من حنايا والدهم، ويزيد توهجهم وحركاتهم وتدللهم في وجوده، على عكس ما حذَّرنا منه سيد المربين محمد صلى الله عليه وسلم "شر الناس الضيق على أهله، الرجل إذا دخل بيته خشعت امرأته، وهرب ولده وفرَّ عبده، فإذا خرج ضحِكت امرأته واستأنس أهل بيته".

 

وفارسنا اليوم إنما هو مَن يقلد الحبيب في التربية، فيجد الزوجة وقد ضاقت بها أخلاقها من شقاوة الولد وعدم مساعدة ابنتها ذات السبع سنوات لها و و و و...، فيأخذ على عاتقه أن يزيد اللُحمة بين أفراد مركبه، وأن يعلي شراعه فيأخذ الأولاد بكل وُد، ويعلمهم بحب ما يجب عليهم تجاه الأم، وما يلبث أن يصبح مطيةً يمتطيها ابنه أو ابنته كلعبة الجمل، الذي كان يلعبها النبي محمد صلى الله عليه وسلم مع الحسن والحسين، وتنتهي شحنة الأب المجهد، وتنتهي شحنة الأم من شقاوة الأولاد، بضحكات يفيضها عليهم ذلك الفارس، الذي قد لا تنتبه الأم إلى أنه هو الذي اختتم ما تريده هي ولكن بطريقته الحانية.

 

فما نريد أن نقوله، هو أنه قد حدث تغيرًا خطيرًا في الخمسين سنة الأخيرة في النظرة لدور الأب- ليس في بلادنا العربية فحسب- وإنما في العالم أجمع، ففي الماضي، كانت النظرة للأب هي نظرة المربي الناصح، مصدر القيم والأخلاق والأمان، والمثل الأعلى، مَن يضبط عقلانية التعامل مع الأولاد بجانب عاطفة الأم فتستوي وتتوازن الأمور؛ حتى حدث هذا التَحوُّل!.

 

ونحن اليوم نريد أن نغير هذا الافتراض الخاطئ الذي تسبب في مصائب كثيرة، فقد تحوَّل دور الأب إلى أنه شخص يقوم بعمل بتوكيل عام أو تفويض شامل بتربية الأولاد للأم، على أن يكون هو ممولاً ماليًّا، فلكلٍ منهما مسئوليته الخاصة، فالأب يسعى على رزق الأولاد والأم تقوم بتربيتهم، ومع واقع الحياة الصعبة، قد يضطر الأب إلى العمل ليلاً ونهارًا وإلى كثرة السفر- وأنا مُدرِك لهذا الكلام لأنني أحد الآباء الذي يضطره عمله إلى كثرة السفر- ولكن اسأل نفسك: "لماذا أنجبتهم؟ وهل يصح هذا التفويض؟".

 

إلغاء التوكيل

هدف اليوم هو "إلغاء هذا التوكيل"! فحقيقة الأمر هو أن الأب قام بتوكيل الأم لتربية الأولاد، والأم قامت بتوكيل للمدرسة، والمدرسة مزقت هذا التوكيل، فلم يجد الأولاد مَن يقوم بتربيتهم! حرام هذا!، ليس حرام من أجل أولادك فقط، وإنما حرام من أجل المسلمين أيضًا، ومن أجل بلادنا ومن أجل أن يكون هناك فائدة مرجوة منهم، فأنت بهذا التوكيل تكون قد قضيت عليهم!
ففي حياتنا اليومية، إذا انحرف ولدٌ ما، تجد أن الأب يتشاجر مع الأم قائلاً: "أين كنتِ وقتذاك عندما تجرع المخدرات؟! فقد كنت أشقى ليلاً نهارًا لتربي أنتِ ولكنك لم تفعلي!" ولا تستطيع الأم الدفاع عن نفسها آنذاك لأنها مدركة أنه قد وكَّلها وقد قبلت هي هذا التوكيل.

 

القارب يحتاج إلى اثنين

الواقع هو أن الأم لا تستطيع وحدها تربية الأولاد، خاصةً في زماننا هذا! فالقارب يحتاج إلى اثنين يقومان بالتجديف به، أحداهما من جهة اليمين، والآخر من جهة الشمال، فمثل هذا الأمر كمثل الأم تركب قاربًا مع ابنها وتقوم بالتجديف به وحدها من جهة اليمين، فهي بالتأكيد لن تصل إلى هدفها لأن القارب بهذا الشكل يدور حول نفسه، فيشعر الولد بالدوار وعندئذٍ أول ما يُفكِّر به هو كيف له أن يقفز من القارب! فما حدث في الخمسين سنة الماضية كان خطأً وإن كنا قد شَهِدناه ونشأنا عليه، والدليل على ذلك التزايد في الانحراف في ظلِّ غياب الأب، فقد خلق الله كلاًّ منا ليؤدي دوره في تربية أولاده، فيا أيها الأب، لا أعني أن تترك عملك ولكنَّ هناك دورًا آخر لك، فيجب عليك أن تُوجِد لابنك الوقت وتقوم بتربيته ما دمت باختيارك قد أتيت لهذه الحياة بإنسان جديد يحمل اسمك.

 

أيها الآباء، لاحظوا الأنبياء، سوف تجد أن الله يذكر الأبوة مع أغلب الأنبياء في القرآن، فهم مثال للأنبياء الناجحين كآباء، مع العلم أنه لا يوجد مَن هم أكثر انشغالاً من الأنبياء، فمهمتهم كانت إصلاح أمم! انظر إلى سيدنا داوود وسليمان، ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ... ﴾ (النمل: من الآية 16)، فقد منحه داوود العلم حتى ورث سليمان داوود وصارت مملكته أقوى من مملكة داوود؛ لأن أباه قد علمه، وانظر إلى إبراهيم وإسماعيل، ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ... ﴾ (الصافات: من الآية 102) أي كَبُرَ إسماعيل أمام أعين أبيه ومعه وليس بعيدًا عنه، ونظرًا لصداقتهما وقربهما من بعضهما البعض سوف يساعد إسماعيل أباه، يقول سيدنا إبراهيم: "يا بُني، إن الله أمرني أن أبني له بيتًا" (الكعبة)، قال: "يا أبتِ، أطِع ربك"، فقال: "يا بُني، وتُعينُني؟".

 

فمن الأبناء الآن مَن يهرب من العمل مع والده ومساعدته في نفس الشركة، قال: "وأُعينُك". تخيل مَن بنى الكعبة بيت الله الحرام؟ إنها قصة أب وابنه، فلم تُذكَر الكعبة في القرآن إلا مع ذكرهما سويًّا، ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ... ﴾ (البقرة: من الآية 127)، ورد ذكر "إسماعيل" في آخر الأمر كي لا تنسى أن ابنه كان يساعده. ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (البقرة:127)، وردت كل الآيات بعد ذلك بصيغة المثنى، فلا تطوف بالبيت إلا وتتذكر قصة أب وابنه ساعد، وأحب أحدهما والآخر وتذكر أيضًا دورك كأب.

 

أحاول هنا أن أُحرِّك في قلوبنا كآباء مسئوليتنا تجاههم، فهم أولادنا، فهو يحمل اسمي ومن لحمي ودمي، فكيف استطعت ببساطة أن تمنح مثل هذا التوكيل؟! كيف استطعت أن تعود إلى بيتك ليلاً وهم نائمون وأن تخرج نهارًا وهم نائمون؟، وأن تمر أيام وشهور وسنوات على هذا الحال؟، كيف لا تكون لحظة عيد وفرحة عند عودتك للبيت وركض الأولاد نحوك؟ إن مِن الآباء الآن مَن يدخل البيت فيكتئب مَن بداخله، ومَن يخرج من البيت فيفرح مَن بداخله!

 

أسباب ضرورة إلغاء التوكيل

يجب أن تقوم بإلغاء التوكيل لأسباب ثلاثة:

أولاً: ابنك وابنتك في حاجةٍ إليك

ثانيًا: أنت تحرم نفسك من ألذِّ نعمةٍ في الدنيا

ثالثًا: سوف تُسأل عنهم أمام الله يوم القيامة.

 

أكثر وقتٍ يحتاج إليك ابنك أو ابنتك فيه هو في مرحلتين، فمنذ وقت الولادة وحتى سن 4 سنوات تكون أمه هي مركز حياته وتمثل أنت له نقطة جانبية كأب، ومن سن 4 سنوات حتى 7 سنوات يحتاج إليك الولد والفتاة ولكن احتياج الولد إليك يكون أكثر، ففي تلك المرحلة عند الولد تبدأ أولى المحاولات الفطرية عند الذكر لتشكيل شخصيته كرجلٍ، فهو يريد أن يستشعر أنه رجل، ويريد أن يتعرَّف على عالم الرجولة فيسعى للتخلص من عالم الأنوثة شيئًا فشيئًا، ويبتعد عن أمه ويسعى نحو عالم الذكورة ويتقرب من أبيه، فيستكشف هذا العالم في والده؛ لذلك يحتاج لك ابنك في هذا الوقت.

 

وستجده يقوم بتقليدك بمنتهى الدقة، ولفت انتباهك بأية طريقة، فإذا حرمته أنت من غريزة رؤية الذكر والأب تبدأ المعاناة بداخله: "هذا الشخص هو الوحيد الذي يستطيع منحي استكشاف هذا العالم، لماذا لا يريد منحي إياه؟!"، هذا أول سن يحتاج ابنك إليك فيه، ولذلك فالمطلقة التي تربي ابنها دون وجود أب تعاني ويعاني الولد أيضًا معاناة نفسية شديدة، وكذلك يعاني اليتيم لأنه بلا أب، ولأن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يتيمًا، فكان في حاجةٍ إلى تحصين شديد، تقول الآية: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى﴾ (الضحى: 6)؛ ولذلك كان لدور جد النبي- عبد المطلب- أهمية كبيرة؛ حيث إنه كان يأخذه لمجالس الرجال في ظلِّ الكعبة ويضع له رداءه، فمثل هذا القرب قد منح النبي شعورًا بوجود رجل كبير في حياته، وعند وفاة جده ظهر عمه أبو طالب.

 

سن دخول المراهقة هو الوقت الآخر الذي يحتاج إليك أولادك فيه لافتقادهم للأمان والاطمئنان، ولكن هنا تحتاج الفتاة إليك أكثر من الولد لما يحدث في تلك الفترة من اضطرابات نفسية وجسدية ولأنها أضعف، حتى وإن لم تؤدِ عملاً جليًّا لها، فوجود الأب فحسب وحضنه وتقبيله لها على جبهتها هي في حاجةٍ له في ذلك الوقت، فالقبلة على جبين الفتاة لها شأن عظيم.

 

وسنلقي الضوء في حلقة مقبلة بإذن الله، على دور النبي كأب.