- ماضون في طريقنا نحو الإصلاح

- لحظة الإفراج عنا كانت من أصعب المواقف

- حكاية الضابط "سوبر مان" الذي كشف الدفاع جهله

- أنجزت أثناء الحبس خمسة كتب تحت الطبع

- تربية أبنائي ظهرت ثمرتها في تلك الرحلة

 

حوار- خالد عفيفي:

بالكاد استطعنا اختراق صفوف محبيه ومهنئيه، ووصلنا إليه وسط طابور طويل لم ينقطع عن منزله منذ أن وطئت قدماه مسقط رأسه "كفر الجلابطة" بمركز الشهداء بالمنوفية، لأول مرة، منذ 3 سنوات مضت.

 

بحديثه الطيب الرقيق وكلماته التي لا ينقطع عنها "خفة الظل"، وبابتسامة الراضي بقضاء الله المفعم بالأمل والحياة؛ تواصل الدكتور فريد جلبط (أستاذ القانون الدولي بكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر) في حواره مع أهل قريته الذين استقبلوه استقبالاً منقطع النظير.

 

رجل بمكانته العلمية ونبوغه المُتَّقِد، وقدرته على تحصيل العلم، على الرغم من صغر سنه (47 عامًا)؛ كان يفترض أن يكون على رأس المكرمين، وفي طليعة العلماء الذين تفتخر بهم الأمة، وينالون أرفع الأوسمة وأعلى درجات التقدير والاحترام!!

 

عاد د. جلبط من جديد يتنفس نسائم الحرية، مقبلاً على الحياة بفيض من الرغبة في تحصيل المزيد من العلم النافع لخدمة دينه ووطنه، مصرًّا على السير في طريق الإصلاح، بعد أن غيَّبته يد الظلم خلف أسوار القهر والاستبداد لثلاث سنوات في المحكمة العسكرية الأخيرة برفقة 17 من قيادات الإخوان المسلمين.

 

د. فريد علي أحمد جلبط حصل على ليسانس الشريعة والقانون عام 1985م، وماجستير في القانون العام من جامعة القاهرة 1994م، ودكتوراه في القانون الدولي العام من جامعة القاهرة عام 2001م في موضوع "بطلان المعاهدات والقرارات الدولية".

 

ضيف حوارنا عضو مجلس إدارة جبهة علماء الأزهر الشريف، وعضو الجمعية المصرية للقانون الدولي، حصل على العديد من شهادات التقدير، وشارك في عددٍ من المؤتمرات العلمية التابعة لجامعة الأزهر.

 

عمل بالتدريس في عددٍ من الجامعات في اليمن لمدة خمس سنوات، وقدَّم العديد من الأبحاث منها: شبهات حول تطبيق الشريعة الإسلامية، كما شارك في مؤتمرات عديدة منها مؤتمر "التحديات القانونية التي تواجه الأمة في القرن القادم" عام 1999م.

وإلى نص الحوار:

من النهاية

* نبدأ من حيث انتهت القصة، كيف كانت لحظة خروجكم من السجن بعد انتهاء مدة العقوبة الجائرة؟

** لحظة خروجنا كانت من أصعب اللحظات التي مرت علينا، خاصة أننا نعرف موعد خروجنا ونستعد له منذ شهر تقريبًا، وتجسدت في تلك اللحظات معاني الأخوة والحب في أعظم أشكالها؛ حيث أَجْهَشَ الإخوة المفرج عنهم بالبكاء حزنًا على فراق من سيبقون وإشفاقًا عليهم، في الوقت الذي يبكون هم فيه من فرحتهم بخروجنا وتنسمنا لرائحة الحرية من جديد.
وكانت هذه اللحظة صورة مكررة لما حدث وقت النطق بالأحكام الجائرة؛ لأننا مكثنا (33 شخصًا) لمدة عام ونصف قبل النطق بالحكم، حيث بكى كل من حصل على البراءة لفراقنا، وبكينا نحن من شدة فرحتنا بخروجهم.

 

أخوة نادرة

* هل حدثت بينكم (داخل السجن) وبين من أُفرج عنهم أية اتصالات بعد ذلك؟

** من خلال رسائلهم مع أهلينا وأقاربنا كانوا يقولون: إنه منذ لحظة النطق بالحكم حتى الإفراج عنهم لم يكن لهم غير البكاء والحزن، وقالوا: إنهم عندما خرجوا ودوا لو أنهم يعودون مرة أخرى إلينا، مؤكدين أنهم لم تطب لهم نومة ولا طعام منذ فراقنا.

 

الصحبة الطيبة

* ألهذا الحد وصلت بينكم درجة الأخوة والحب في الله؟ من المؤكد أنك كنت تعرف معظمهم قبل الاعتقال!

** على العكس.. لم أكن أعرف معظمهم معرفة شخصية، فنحن نُزعنا من أهلينا وأبنائنا، ولكن- والحمد لله- عوضنا الله عز وجل بمجموعة من خيرة أبناء الأمة، وأصبحت العاطفة والمشاعر الأكثر بين هذه المجموعة التي تعيش مع بعضها 24 ساعة يوميًّا لمدة 3 سنوات أو أكثر، وهذا أمر غير مسبوق، ولا يحدث لأحد في تاريخ حياته، فكنا نأكل ونشرب ونصلي ونقرأ ونتريض، بل وفي كل أحوالنا مع بعضنا البعض.

 

* عدد من الأحداث المفرحة والحزينة الخاصة ببعضكم وقعت أثناء الاعتقال، كيف كان شعوركم جميعًا؟

** كما قلت سابقًا معيشتنا وارتباطنا ببعض جعلنا وحدة واحدة، فكان الخبر السار لأحدنا مثل زواج أحد أبنائهم وبناتهم أو تفوقه يفرحنا جميعًا، وبالمثل بالنسبة للأخبار المحزنة مثل وفاة والد أحد أو والدته، فكنّا وقتها- كمثل باقي الأوقات- ننصهر في شخص واحد، ولا تستطيع أن تفرق بيننا في المشاعر والأحاسيس.

 

القانون في إجازة!

*عودة إلى الوراء قليلاً، وبصفتك رجل قانون، كيف ترى القضية والعوار القانوني الذي شابها؟

** العوار القانوني يكون عندما يطبق القانون غيرَ مكتمل أو منقوصًا، إنما في قضية ما أسموه "ميليشيات الأزهر"؛ فإن القانون كان غائبًا بشكل تام، ولم أره يطبق منذ بداية القصة إلى نهايتها.

 

فقد تم الاعتقال دون إذن النيابة، كما أكد الضباط الذين قاموا بعملية الاعتقال، وحصلنا على أعلى عدد من الأحكام القضائية من محاكم الجنايات وأمن الدولة والإدارية والإدارية العليا، ولم تنفذ.

 الصورة غير متاحة
 

 

كما أن الجنائيين من جواسيس وتجار مخدرات والقتلة حوكموا أمام محاكم مدنية، وكانت سنتهم في السجن 8 أشهر أو6 أو4، أما الإخوان فهم الوحيدون الذين يحترم النظام الحكم القضائي الصادر ضدهم، وسنتهم 12 شهرًا و5 أيام!!

 

في النهاية.. فإن كل الفترة التي مكثناها في السجن لم تكن حكمًا قضائيًّا واحدًا؛ ولكنها كانت بقرارات إدارية.

 

وأتذكر عددًا من الوقائع التي تثبت غياب القانون في قضيتنا، وذلك من بعض جلسات المحكمة العسكرية.

 

تحريات خرافية!!

* اذكر لنا بعضًا منها.

** تجلت تلك المواقف في مواجهات هيئة الدفاع مع المقدم عاطف الحسيني وآخرين من ضباط أمن الدولة الذين قاموا بالاعتقال، فانقسموا في حديثهم بين من قال: إن إذن النيابة موجود معه ولكنه لم يحضره. وبين من قال: إنه لا يوجد إذن من النيابة أساسًا، وأنه قام بالاعتقال بناءً على مكالمة تليفونية من رئيسه في العمل!!

 

وعاطف الحسيني كان الشاهد الوحيد في القضية، واستطاع أن يقوم بالتحريات بمفرده على 40 شخصًا من سويسرا وحتى المنوفية وفي جامعات القاهرة والأزهر والمنوفية، وعندما حوصر بأسئلة الدفاع قال: إنه استغرق في إعدادها 6 أشهر.

 

كما ألحَّ الدفاع عليه بذكر واقعة أو الاستشهاد بمثال على الاتهامات التي وجهت لنا، بداية من الانتماء للإخوان.. إلى غسيل الأموال وتمويل الإرهاب.. وغيرها، كان رده: "لا أعلم، التحريات كانت عن طريق مصادرنا السرية"!!

 

وطعن الدفاع بالتزوير على جميع إجراءات التفتيش والقبض علينا؛ لدرجة أن أحد الضباط شهد أنه كان في يوم ما في ساعة محددة يقوم بتفتيش إحدى المكتبات، وبعد أيام وفي جلسة أخرى قال: إنه في نفس تلك الساعة من نفس اليوم كان في القليوبية في مكتبة الحاج حسن زلط!!

 

ضابط "سوبر مان"!

* علمنا أن قاعة المحكمة أصابتها نوبة من الضحك الهستيري أثناء أسئلة الدفاع لأحد الضباط بخصوص د. جلبط.

** حدث ذلك بالفعل، عندما سأل الدفاع أحد الضباط عن تخصصي بجامعة الأزهر باعتبار أن أساتذتها هم من دعموا العرض الرياضي أو العسكري كما يقولون، وكانت إجابة الضابط أني أستاذ في كلية الطب، وعندها ضجت قاعة المحكمة بالضحك بما فيهم هيئة المحكمة، ثم كان السؤال كيف ساعدت الطلبة في العرض؟ فكان رده أني لم أساعدهم في شيء!!

 

الأمن والإعلام

* قبل أسابيع انطلقت الشائعات تردد أن فضيلة المرشد استقال، وأن هناك خلافًا داخل مكتب الإرشاد، كيف كان صداها لديكم داخل السجن، خاصة أن بعض الصحف نقلت أن قيادات الإخوان داخل السجن غاضبة ولا يروقها ما يحدث؟

** لم نكثر الكلام في تلك القضايا، ولم نكن نعتمد بأية حال من الأحوال على ما تنشره وسائل الإعلام؛ لأننا في النهاية لو اعتمدنا على ذلك فسوف يصلنا كلام مغلوط.

 

كما أنه كانت هناك أشياء أخرى تهمنا وتشغل أوقاتنا، فالإعلام اختزل جماعة بحجم الإخوان في شخص المهندس خيرت الشاطر وإخوانه الـ17، وهذا أمر مرفوض تمامًا.

 

وأرى أن ما حدث هو مجرد تباين في الرؤى، فجماعة الإخوان هيئة إسلامية جامعة، بها مدارس إسلامية وسياسية متنوعة.

 

وأُلمِح هنا إلى أن اللاعب الأساسي في هذا الموضوع هو أجهزة الأمن عن طريق تجسسها ونقلها لاجتماعات الإخوان، ساعدها في ذلك أجهزة الإعلام التي ضخمت الموضوع، وأعطته أكبر من حجمه، ووصفته بالأزمة العاصفة!!

 

فترة مثمرة

* ماذا كانت اهتماماتك خلال فترة الحبس؟

** انشغلت بكتابات في خدمة الشريعة، ووفقني الله لكتابة بعض الكتب تحت الطباعة، ومنها: كتاب عن "موقف الإسلام من العنف والإرهاب"، وكتاب "نزهة المتقين"، وكتاب آخر لم يكتمل ودرسته على شكل محاضرات للإخوة في العسكرية، وهو بعنوان "مصر في القرآن الكريم" نموذجا سيدنا يوسف وسيدنا موسى عليهما السلام، وكتاب "آداب اجتماعية من سورة الحجرات"، و"فقه الجهاد في سورة محمد".

 

* كانت إذن فترة مثمرة لحد كبير؟

** أنا سميت تلك الفترة بفترة "افعل ما شئت واكتب ما شئت واجلس مع من شئت وأنت آمن تمامًا"، فنحن كنا مقيدي الجسد والتنقل لكن آمنين في مسكننا تمامًا، على عكس ما نجد في بيوتنا، فلا أمان على الرغم من حرية الجسد والتنقل.

 

وكنت في أحيان كثيرة أشد بهذه الكلمات على أيدي إخواننا الذين لم يكملوا فترة العقوبة، وأقول لهم إنه لا فرق في الإخوان المسلمين بين من هم داخل السجن ومن هم خارجه!!

 

استقبال حافل

* غيابك تلك الفترة عن تلاميذك ومحاضراتك، لا شك أنه ترك جرحًا غائرًا لديك.

** أستاذ الجامعة ماء، حياته هو التدريس والمدرجات والعيش بين الطلاب وتحقيق النجاحات تلو النجاحات، فإذا أخرجته من ماء حياته فكأنك حكمت عليه بالجمود والتوقف، ولكننا بحمد الله خرجنا من هذا المعتقل ونحن نتمتع بإرادة قوية للاستمرار في طريق العلم والدعوة.

 

* كيف استقبلك زملاؤك وأساتذتك في الكلية عندما زرتهم يوم إطلاق سراحك؟

** خرجت من مقر أمن الدولة، صباح الأحد الماضي، وذهبت بعدها للكلية، وكان بانتظاري حفلاً أسطوريًّا، فقد استقبلني الجميع بحفاوة بالغة بداية من عامل السويتش والموظفين، مرورًا بجميع الأساتذة والزملاء والمعيدين وصولاً إلى وكيل الكلية وعميدها، وشعرت بعد هذا الاستقبال أني حصلت بهذا التكريم على أكثر من حقي، كما أن التليفون لم ينقطع منذ وصولي إلى المنزل عن اتصال كافة المحبين والزملاء في أنحاء العالم.

 

ونعم التربية

* أولادك الصغار كيف استطعت أقلمتهم على وضعك في السجن؟

** أطفال اقتحمت الشقة عليهم، وتم ترويعهم، ووجدوا أباهم في السجن؛ فلا شك أنهم تأثروا لفترة ما، وكان تأثيرًا سلبيًّا فيهم، ولكن بمرور الوقت وبالزيارات هانت المسائل وصغرت، ولله الحمد.

 

التربية بناء متراكم، وما بذلناه من جهد في تربية الأبناء ظهرت ثماره في تلك الأيام الصعبة، ورعاهم الله وحفظهم، واستمروا على تفوقهم، رغم المحنة، ولكن في النهاية الظلم ظلم والأسى أسى.

 

هداية الظالمين

* بعد هذا الظلم البين، ما موقفك تجاه من ظلموك؟

** أن تأخذ ابنًا من أم كبر سنها، وتحتاج إلى رعايته وحنانه، وزوجة تفاجأ بغياب زوجها لتصبح هي الأم والأب في آن واحد، وأولاد في سن المراهقة كانوا أحوج الناس لمصاحبة آبائهم، وأطفال صغار يتوقون إلى حضن أبيهم، هذا شيء مؤسف ومؤلم، ويعبر عن ظلم شديد وقع بنا، ومع ذلك فنحن مشفقون على الظالمين، ونتمنى لهم الهداية، وهدايتهم أحب إلينا من عقاب الله عز وجل.

 

فانتقام الله منهم لا نحبه لهم، وهم أحب إلينا بكثير من أن يحدث لهم أو لذويهم أي مكروه، على الرغم من أنهم يعرفون جيدًا أنهم ظلمونا وأمعنوا في ظلمنا، ورفضوا تنفيذ أحكام القضاء الصادرة بحقنا.

 

الإصلاح طريقنا

* هل ما زلت مصرًّا على السير في طريق الإصلاح؟

** رسالتنا هي الرغبة في رضا الله عز وجل، ونحن طامعون في رحمته، وسائرون على طريقه الذي هو طريق النبي صلى الله عليه وسلم، وخاصة أنا رجل أزهريّ، وكما قال النبي: "العلماء ورثة الأنبياء".

 

وطريق الإصلاح هو الطريق الذي لا طريق غيره، حبًّا لشعب مصر ولأهل قريتي ولأبنائي ولأهل بيتي ولنفسي، وما زلت مصرًّا على هذا الطريق؛ إصلاحًا للأوضاع القائمة حاليًّا، وإنجازًا لمشروع نهضة يعود بمصر إلى مكانتها وريادتها، وبالأمة العربية إلى سالف عهدها، وبالأمة الإسلامية ككيان واحد وأمة واحدة، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ (آل عمران: من الآية 110).

 

درب الأنبياء

* هذا بالرغم مما دفعته والعقبات التي يمكنك أن تواجهها.

** مهما كان الثمن والتضحيات، طريق الإنسان عمومًا في هذه الحياة طريق ابتلاءات، وأصحاب الدعوات يكون الابتلاء بالنسبة لهم أشد: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)﴾ (الأنبياء)، ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ﴾ (البقرة: من الآية 155)، كما أن إقامة دولة العدل والأمن والرخاء في مصر ليس لها إلا طريق واحد، هو طريق الإيمان وشريعة الإسلام.

 

* كلمة أخيرة تحب أن تقولها.

** الظلم والقهر والإيذاء البدني لا يمكن أن ينال من إيمان فرد أو من فكره وعقيدته، ولكنه يصنع منه نموذجًا وقدوةً لدوائر أكثر اتساعًا مما كانت عليه قبل وقوع الظلم، ولله الحمد أصبحت من المؤمل فيهم أن أكون عالمًا من علماء الأمة أنفعها بعلمي.