هناك بعض التصورات التي ترى أن على الحركة الإسلامية التعامل مع الواقع الحالي، المتمثل في وجود دول قطرية في البلاد العربية والإسلامية، وأن عليها القبول بالعمل من خلال الدولة القطرية الحديثة، أي الدولة القومية القطرية، والتي تسمى أحيانًا الدولة المدنية الحديثة.

 

والمعنى وراء هذا التصور، هو العمل من خلال الدولة القائمة، ومن خلال الأسس التي قامت عليها، وكأنَّ المطلوب هو تعديل مرجعية الدولة القومية القطرية لتصبح مرجعيةً إسلامية، بدلاً من مرجعيتها العلمانية، وإن كانت بعض التصورات تذهب لما هو أبعد من ذلك، وتطرح تصورًا يقوم على قبول الدولة القومية القطرية، وقبول العلمانية نسبيًّا أو جزئيًّا أيضًا، وإضافة المرجعية الإسلامية إليها.

 

هذه التصورات تؤدي إلى قيام دولة قومية إسلامية، أو إلى قيام دولة قومية علمانية إسلامية، فهل هذا التصور مقبول كوضعٍ نهائي، أو كوضع مؤقت أو مرحلي؟ نحتاج في هذا الموضوع للنظر في عملية التفاعل بين الحركة الإسلامية والواقع القائم؛ ففي كل الأحوال، سيكون على الحركة الإسلامية التعامل مع الواقع القائم، والعمل من خلاله، ولكن إلى أي حدٍّ يمكن أن تتكيف الحركة الإسلامية مع هذا الواقع، وإلى أي حدٍّ يلزم أن تعمل الحركة الإسلامية من خلال الواقع القائم لتغييره.

 

عن العلمانية الجزئية

مشكلة التعامل مع الدولة القومية القطرية، أنها قائمة على الرؤية العلمانية؛ ما جعل بعض التصورات التي تطرحها أطراف إسلامية، تميل للقبول الجزئي للعلمانية، أي قبول العلمانية الجزئية، والتي تعني العلمانية التي لا تعادي الدين ولا تحارب التدين، ولكن العلمانية الجزئية التي لا تحارب الدين، تقوم أساسًا على عزل الدين عن المجال العام، فالعلمانية التي لا تحارب الدين، هي تلك العلمانية التي تسمح بدور للدين في الحياة الخاصة، وتجعله شأنًا فرديًّا خاصًّا، يمارس فيه الفرد حريته.

 

ولكن لا توجد علمانية تسمح بدور رسمي للدين في المجال العام، بما في ذلك العلمانية الجزئية التي لا تعادي الدين، فالمشكلة ليست في موقف العلمانية من الدين، ومدى عدائها له، ولكن المشكلة الأصلية تكمن في قضية دور الدين في الحياة العامة، والمشروع الإسلامي برمته يقوم على جعل الدين هو الحكم الأعلى في المجال العام، وبالتالي في المجال السياسي، والدولة الحضارية الإسلامية تقوم أساسًا على القيم العليا المستمدة من الدين.

 

معنى هذا أن كل شكلٍ من أشكال العلمانية، وكل درجةٍ من درجات العلمانية، تعني تنحية الدين عن القيام بدور الحكم الأعلى للنظام السياسي، والمصدر الرئيس لكل القيم والمبادئ العليا الحاكمة؛ لذا، فإن كل محاولةٍ للتكيف مع الدولة القومية القطرية تصطدم بأسسها العلمانية، وأي درجةٍ من درجات قبول العلمانية، تؤدي إلى الخصم من دور الدين في الحياة.

 

وهنا نؤكد أن تراجع دور الدين نسبيًّا عن أن يكون القيمة العليا الحاكمة، أو أن تزاحمه قيم أخرى ليس مصدرها الدين، يؤدي إلى مزيدٍ من التراجع لدور الدين، حتى يصبح شأنًا فرديًّا خاصًّا، ويتم تنحيته من المجال العام كليًّا، وهذا ما حدث في الدول الغربية، فكل الأنظمة العلمانية، سواء التي تعادي الدين أو التي لا تعادي الدين، قد نحت الدين عن أن يكون الحكم الأعلى للمجال العام، بل وتجنبت أي دورٍ للدين في المجال العام، والفرق بين العلمانية الشاملة والعلمانية الجزئية، أن العلمانية الشاملة تؤدي إلى تراجع وجود الدين حتى في الحياة الخاصة للناس، حتى يتنحى بالكامل وربما يختفي، أما العلمانية الجزئية فتترك للدين دورًا في حياة الناس، دون أن يكون له دور في حياة المجتمع ككل، أو في النظام السياسي.

 

القومية الإسلامية

من جانبٍ آخر، هناك تصورات تميل إلى قبول الدولة القومية القطرية باعتبارها الشكل المناسب للدولة في الواقع المعاصر، ومعنى هذا، أن على الحركة الإسلامية أن تقيم مشروعها من داخل الدولة القومية، وإذا افترضنا أن قيام المشروع الإسلامي من داخل الدولة القومية القطرية، سوف يتجنب أي قدرٍ من العلمانية، إذن سيكون لدينا في النهاية دولة قومية إسلامية!.

 

وللنظر إلى ذلك النموذج القائم على القومية والإسلامية معًا، فأول ما نراه أن تلك الدولة ستكون دولة قومية بعينها، تُعبِّر عنها وتمثلها وتلتزم بها، وستكون حدود تلك الدولة مرتبطة بحدود القومية، وسيكون أمنها مرتبطًا بالأمن القومي، أي أمن الدولة القومية، وأمن الشعب الذي يمثل تلك القومية، وهنا تراجعت فكرة الأمة، بل تم تفكيك الأمة هذه المرة تحت شعار إسلامي؛ لأن الدولة القومية لا يمكن أن تعترف بمسئوليةٍ لها عن قوميات أخرى، بل يكون عليها الحفاظ على مصالح قوميتها في وجه القوميات الأخرى؛ ولذا لا يصبح هدف توحيد الأمة، هدفًا للدولة القومية الإسلامية، وبهذا تسقط تلك الدولة مفهوم الأمة الواحدة.

 

والدولة القومية الإسلامية يمكنها أن تتعاون مع دول الجوار على أساس المصلحة المشتركة، وهنا يصبح التاريخ والحضارة والدين، عوامل لوجود مشترك بين الدول العربية والإسلامية، ولكنها ليست القيم الواحدة التي تؤسس للأمة الإسلامية، بل هي المصالح المشتركة.

 

كما أن الدولة القومية الإسلامية يمكنها أن تعمل على توحيد القوميات التي من أصل واحد، كأن تقوم دول قومية في الدول العربية، ثم تعمل على توحيد نفسها في إطار القومية العربية، مثل الدول الأوروبية، والتي تتشكل من قوميات مستقلة مثل الفرنسية والألمانية، ولكنها يمكن أن تتوحد داخل الأصل العرقي المشترك للحضارة الغربية، حضارة الرجل الأبيض كما تسمى، وهنا تكون الوحدة، هي وحدة إثنية؛ أي وحدة قوميات ذات أصلٍ عرقي واحد.

 

دولة عنصرية

والدولة القومية الإسلامية لن تستطع الهروب من النزعة القومية ولا من التعصب القومي، فالقومية تعد أساسًا بيولوجيًّا، يؤدي إلى التمييز بين الناس على أساس العرق؛ ما يؤدي إلى تكريس التعصب والعنصرية؛ ولذا سوف تؤدي تلك الدولة القومية الإسلامية، إلى نشر النزعة القومية بين أبناء الأمة الإسلامية؛ ما يُكرِّس تفكك الأمة، وتصبح الدولة رغم إسلاميتها، أداةً في تفكيك الأمة، وهي بهذا قد تكون الحل الذي يجد دعمًا غربيًّا واسعًا؛ لأنها ستكون دولة إسلامية تلقى تأييدًا جماهيريًّا، ومع هذا ستكون أداةً لمنع وحدة الأمة الإسلامية.

 

إسلامية جزئية

كما أن الدولة القومية الإسلامية، والتي تستند إلى القيم العليا وتستند إلى القومية في وقتٍ واحدٍ، سوف تكون في النهاية مخلصة لقوميتها أكثر من إخلاصها لقيمها الدينية؛ لأن القومية تمثل إطارًا حاكمًا، فتصبح بهذا سندًا قويًّا للدولة، ينافس سندها الديني، والدولة التي تعمل من خلال أسسها القومية أحيانًا، وتعمل من خلال أسسها الدينية أحيانًا أخرى، تصبح دولة قومية في النهاية، بل وسوف تصبح دولة علمانية في نهاية المطاف، لسببٍ بسيط، وهو أن المرجعية الدينية لا يمكن أن تكون جزئية، فمرجعية الدين لا تتحقق إلا وهو الإطار الكلي الشامل، أما تحويل الدين إلى مرجعية جزئية، والاستناد له أحيانًا، فهو ما يؤدي إلى هدم المرجعية الدينية في نهاية الأمر.

 

تفكيك الأمة

وأيضًا علينا أن نتصور الدولة القومية الإسلامية، والتي ترفع راية القومية وتعتز بها، وترفع راية الإسلامية وتعتز بها، فتلك الدولة سوف تحول الإسلامية إلى جزءٍ من القومية، وترى نفسها أنها تمثل القومية الإسلامية الأصلية، وما عداها يكون أقل منها شأنًا، وسوف يختلط التفاخر القومي بتفاخرٍ إسلامي ويمتزجان، فنكون بصدد دولة ذات أساس عنصري.

 

وهي دولة لن تقبل التنوع الداخلي، بل سوف تعمل على بناء مجتمعها بصورة تؤكد قوميته وإسلاميته، وربما مذهبه في وقت واحد، فتصبح دولة مانعة للتنوع في إطار الوحدة، أي سوف تصبح دولة تنمِّط المجتمع وكأنه من لون واحد، عرقي وديني ومذهبي.

 

والنموذج الإيراني له دلالة في هذا الشأن، فالجمهورية الإيرانية الإسلامية، تمثل حالةً يمكن أن تصل إلى دولة قومية إسلامية، تستند إلى الفارسية والشيعية والإسلامية، ولا تقبل التنوع الداخلي بين المذاهب أو القوميات، وتعمل على إعلاء قوميتها، فيحدث التناقض بين شعاراتها الإسلامية، وبين حمايتها لقوميتها؛ فتتحرك الدولة لحماية قوميتها وحدودها، حتى وإن كان هذا على حساب مصالح الأمة، وبهذا لا يتحقق نموذج الدولة الحضارية الإسلامية، والتي تعمل على حماية الأمن الحضاري للأمة، والتي تعمل على توحيد الأمة.

 

وهناك أيضًا نموذج آخر، قد يتبلور في نفس الاتجاه، وهو النموذج التركي، والدولة التركية هي دولة علمانية وقومية وقطرية، وهي بهذا تتأسس على القومية، ووجود حزب علماني أسَّسه إسلاميون في الحكم (حزب العدالة والتنمية)، واستعانتهم بالقومية كإطار يتم من خلاله إحياء القيم والتقاليد، قد يؤدي إلى تكون نموذج يستدعي الإسلامية من خلال القومية، بأن يجعل الإسلامية مقابلة للتقاليد التركية العثمانية؛ ما يمكنه من استعادة الهوية الإسلامية، دون أن يكون نظامًا إسلاميًّا، ويؤدي هذا في النهاية إلى قيام دولة قومية إسلامية، ترعى مصالحها القومية، ولا تعمل على توحيد الأمة.

 

فإذا سارت التجربة الإيرانية في هذا الاتجاه، ثم سارت التجربة التركية في الاتجاه نفسه، وتكررت هذه التجربة في بلاد أخرى، فسوف نكون بصدد تجارب قومية إسلامية، تفتت وحدة الأمة، وتشعل الصراعات الإقليمية والقومية، وتخنق القوميات الفرعية، وتحول مكونات الأمة إلى أقليات مختلفة عن القومية السائدة في الدولة القومية الإسلامية.

 

الخلاصة

كل هذا سوف يكون إعادة إنتاج لما تعاني منه الأمة حاليًّا، دول قطرية تفتت الأمة، وتخلق صراعات داخلية، وتهدم فكرة الأمة الواحدة، وتتحول في النهاية إلى دول قطرية علمانية مستبدة.

 

قصدنا من هذا؛ تأكيد أن الدولة القومية الإسلامية، لا تصلح لأن تكون مرحلةً من مراحل المشروع الإسلامي؛ لأنها سوف تُعرقله وتمنع تحققه، وتعيدنا إلى حالة الاستبداد والتبعية والتفكك.