هل كان غير موضوعيٍّ أو غير نزيهٍ؟!.. قد يستغرب البعض طرح هذا السؤال في شأن حالة الإعلام المصري وطبيعة تناوله للمحاكمة العسكرية التي تمت في حق 40 من رموز وقيادات الإخوان المسلمين، وعلى رأسهم المهندس خيرت الشاطر النائب الثاني للمرشد العام للإخوان المسلمين، والأحكام الصادرة فيها، مع كل ما تم دبجه من عناوين وتقارير وموضوعاتٍ، سواء أثناء الفترة الطويلة التي استمرت فيها المحاكمة (ما يقرب من عامٍ ونصف العام) أو في أعقاب صدور الحكم.
في حقيقة الأمر كان الإعلام المصري في هذه القضية على موعدٍ مع اختبارٍ حقيقيٍّ، سواء لمدى قدرته على التغطية، أو في الإطار الإستراتيجي الأعم المتعلق بدور الإعلام في مصر في تحريك الرأي العام ودوره السياسي وتوجيهه للحراك العام للوطن؛ كدورٍ دستوريٍّ أصيلٍ للإعلام، أعطاه له المشرِّع المصري في تعديلات الدستور التي تم إقرارها في العام 1981م، عندما تحدث عن الصحافة كسلطةٍ رابعةٍ في مصر، بجانب السلطات الثلاث الأصيلة: النيابية والتنفيذية والقضائية.
إلا أنَّ هناك العديد من الاعتبارات التي تجعلنا نطرح هذا السؤال: هل كان الإعلام المصري غير موضوعيٍّ أو غير نزيهٍ خلال تناوله للقضية والحكم الصادر فيها؟ وهذه الاعتبارات ذات جانبٍ سياسيٍّ بالأساس، وبعضها له أوجهٌ أمنيةٌ، يتيح عرضها فهم طبيعة تعامل الإعلام المصري- وخصوصًا الإعلام الورقي- مع الحكم.
مبدئيًّا وعند تحليل موقف وسائل الإعلام من أية قضية فإنَّ هناك اتجاهَيْن أساسيَّيْن للتحليل؛ الأول هو الاتجاه المتعلق بمستوى التغطية الحدثية على أرض الواقع، والثاني هو المتعلق بطبيعة الموقف من هذا الحدث والقضية التي تقف خلفه.
وبطبيعة الحال ووفق ما هو متعارف عليه من أصولٍ مهنيةٍ؛ فإنَّ طبيعة هذا الموقف والاتجاه الذي تتبنَّاه وسيلة الإعلام يحدِّد اتجاه التغطية الحدثية على أرض الواقع، سواء بتغطيةٍ ضعيفةٍ على قدر التطورات الجديدة فقط، أو تغطيةٍ متوازنةٍ، أو حتى بالتجاهل، وهو في ذاته مستوى من مستويات التغطية.
كما أنَّه في هذا الاتجاه يجب التمييز ما بين مستويات عدة للتحليل؛ فهناك فارقٌ في التغطية بين الصحف الورقية وتغطية القنوات الفضائية وتغطية المواقع الإليكترونية؛ حيث إنَّ لكلٍّ منها درجةً من الحرية في العمل تجعلها أكثر قدرةً أو أقل على العمل والتحرك في إطار حدثٍ ما.
وبشكلٍ عام فإنَّ الصحف الورقية هي الأقل قدرةً على المناورة والتغطية، وتحتل مواقع الإنترنت- وخصوصًا المدوَّنات- المركز الأول في حرية الحركة والتغطية.
أجواء سياسية
مصر بلا قضبان.. أمل المصريين
بدايةً لا نكون مفتئتين أو متجنِّين عندما نقول إنَّ المحكمة العسكرية برمَّتها كانت قضيةً إعلاميةً؛ حيث كانت من الأصل بغرض تشويه صورة الإخوان المسلمين أمام جمهور الشعب المصري الذي تحمَّس ناخبوه للخيار الإخواني في انتخابات العام 2008م التشريعية، وكانت المحكمة العسكرية إحدى الأدوات التي لجأت إليها الدولة لتحجيم الوجود الشعبي والجماهيري للإخوان المسلمين، وهو هدف وإنْ استُعملت فيه أدوات أمنية وسياسية عدة؛ إلا أنَّه كان محور معركة إعلامية، استهدفت بالأساس تحقيق مجموعة من الأهداف الفرعية المرحلية، وكلها ذات طابعٍ إعلاميٍّ:
- الصراع على قلب وعقل الرأي العام المصري، الذي أوصل الإخوان المسلمين إلى مجلس الشعب المصري، وتشويه صورة الإخوان لدى الناس.
- إرباك الجماعة وشغلها عن أنشطتها، وتعطيل مشروعاتها السياسية والاجتماعية، وهي في معظمها ذات أهداف إعلامية في كشف الفساد وتحريك المجتمع المصري نحو المزيد من الإيجابية والمشاركة والتفاعل، وتعميق فكرة الإصلاح والمشروع الدعوي النهضوي الإخواني.
إلا أنَّ إجراءات الحكم في مصر تجاه الإخوان أتت بنتيجةٍ عكسيةٍ، وحتى بمنطق أنَّ "عدو عدوي صديقي" فإنَّ الشعب المصري الرافض لحكومته بكل ما تسببت فيه من كوارث على مدار السنوات الماضية؛ تحمَّس بشدة مع قيادات الإخوان التي كان يتم محاكمتها، ولذلك أطال النظام الحاكم أمَدَ المحاكمة؛ لدرجة أنَّ الحكم وحده تأجل ثلاث مرات، وتحدَّد له أكثر من موعدٍ على مدار أشهر ما بين فبراير وأبريل 2008م، على أمل أنْ يفتر الاهتمام الشعبي والإعلامي بها.
كما لعب الإعلام دورًا كبيرًا في كشف وقائع أغرب محاكمة سياسية تشهدها مصر، مع شمول القضية لرجال أعمال نزهاء وأساتذة جامعات وعلماء ومهنيين من الإصلاحيين المنتمين للإخوان المسلمين، عبر كشف بطلان الاتهامات الموجَّهة إلى الإخوان، والتي لم يكن هناك دليلٌ عليها؛ سوى مذكرة تحريات مباحث أمن الدولة التي احتوت كلامًا مرسلاً كان مليئًا بالافتراءات والأكاذيب.
وكشف الإعلام المصري النزيه- وليس كله نزيهًا- عن أنَّ الانتخابات البرلمانية التي أجريت في نوفمبر وديسمبر 2005م كانت هي السبب الرئيسي في موقف النظام المصري من جماعة الإخوان المسلمين؛ حيث إنَّه على الرغم من كل الانتهاكات الخطيرة التي شابت العملية الانتخابية- وبالذات في مرحلتيها الثانية والثالثة- تمكن الإخوان من تحقيق فوزٍ كبيرٍ تمثل في فوز 60% من مرشحيهم في الانتخابات ودخول 88 نائبًا، وكانوا يستحقون أكثر من ذلك بكثير باعتراف رئيس الوزراء المصري ذاته.
كما كان دور الإخوان البارز في الحراك السياسي- الذي بدأ مع إعلان فضيلة الأستاذ محمد مهدي عاكف المرشد العام للإخوان المسلمين وثيقة الإخوان الإصلاحية على منبر نقابة الصحفيين في ربيع العام 2004م- محركًا رئيسيًّا آخر لموقف الدولة من الإخوان، وخصوصًا مع مواقف الإخوان التالية من قضايا مهمة، مثل تعديل المادة (76) من الدستور المصري الخاصة بانتخاب رئيس الجمهورية، ووقوفهم في صف استقلال القضاة مع القوى السياسية الأخرى.
كل ذلك كان ذلك سببًا في أنْ يقرِّر النظام الحاكم توجيه ضربات شرسة للإخوان، تمثلت في عدة محاور:
- إجراء تعديلات دستورية مشينة تحظر أي نشاطٍ سياسيٍّ؛ بما في ذلك تشكيل الأحزاب على أساس مرجعية دينية، والإعداد لإصدار قانون مكافحة الإرهاب الذي يطلق يد الشرطة أكثر مما هي مطلقة ضد كل المعارضين السياسيين.
- منع الإخوان من الفوز بأي مقعد في انتخابات مجلس الشورى، وتحجيم وجودهم خلال انتخابات المحليات والاتحادات العمالية التي جرت في العام 2007م.
- إلغاء الإشراف القضائي على الانتخابات والاستفتاءات، من خلال التعديلات الدستورية التي تمت في مارس 2007م، مع ما كان للإشراف القضائي من دورٍ في تحقيق درجة من النزاهة في انتخابات مجلس الشعب، كشفت الحجم الحقيقي للإخوان وقوتهم.
- ثم كانت الحملات الإعلامية الرسمية المنظمة لتشويه صورة الإخوان في وسائل الإعلام الحكومية ومن حذا حذوها؛ لإضعاف الشعبية التي يتمتعون بها في الشارع المصري، وكانت المحكمة العسكرية جزءًا لا يتجزَّأ من ذلك الجهد الرسمي المحموم.
ضغوط أمنية وسياسية
الحرية.. مطلب المحالين إلى المحكمة العسكرية
وفي حالة المحكمة العسكرية الأخيرة لقيادات الإخوان المسلمين، فإنَّه- بلا شكٍّ- لم يكن الإعلام المصري قادرًا على الخروج عن النصٍّ المرسوم له، وكان عليه الالتزام به بالضرورة، سواء طواعية منه أو كراهة.
ولعل الموقف السياسي للدولة المصرية إزاء المحاكمة- والذي تحدَّد من البداية بقصم ظهر الإخوان المسلمين، أو هذا ما سعت إليه على الأقل- كان غالبًا وقاهرًا، وكانت منظمة العفو الدولية (أمنستي) موفقة للغاية في تلخيصها في العبارة التي استهلَّت بها تقريرها الذي أصدرته عن الحكم الصادر في مثل هذه الأيام من العام الماضي 2008م؛ حيث قالت: "بدا واضحًا أنَّ المحاكمة تجري على خلفيةٍ سياسيةٍ منذ بدايتها، عندما أحال الرئيس المصري حسني مبارك المتهمين إلى محكمة عسكرية، على الرغم من القرار السابق لمحكمة مدنية بالإفراج عن بعضهم".
وقال البيان أيضًا: "إنَّ محاكمة اليوم لا تدع مجالاً للشك بأنَّ السلطات المصرية عازمة على اقتلاع الجماعة المعارضة الرئيسية في البلاد".
فعلى مستوى التغطية عانى مراسلو وسائل الإعلام- سواء كانت المصرية أو حتى الأجنبية من تضييق قوات الأمن- من نقل وقائع المحكمة، وهو تضييقٌ طال حتى ممثلي المجتمع المدني المصريين والأجانب، مثل هيثم مناع الناطق باسم اللجنة العربية لحقوق الإنسان، وفيوليت داغر رئيسة اللجنة العربية لحقوق الإنسان في فرنسا.
أما على مستوى الموقف من القضية ذاتها، فقد مارست أجهزة الحكم والسلطان في مصر ضغوطًا حقيقيةً على مسئولي التحرير في مختلف وسائل الإعلام المختلفة عند تناول القضية العسكرية، وقد بلغَتْ هذه الضغوط حدَّ التهديد الصريح لبعض الإعلاميين والصحفيين.
هذه التأثيرات الرسمية التي دخلت على خطها مختلف أجهزة الدولة- بما في ذلك قيادات الحكومة والحزب الحاكم- كان لها أبلغ الأثر على اتجاهات تغطية الإعلام المصري، وخصوصًا الصحف الورقية؛ التي هي بحاجةٍ إلى الدعم المالي الحكومي، ولا يمكنها المناورة للالتفاف على قيود الإعلام والنشر التي تمكنت مواقع الإنترنت من الالتفاف عليها، لامتلاكها الأدوات اللازمة لذلك.
مواقف واتجاهات
وقد تباينت مواقف واتجاهات تعامل الصحافة والإعلام في مصر مع الحكم الذ صدر في حق 25 من بين 40 من رموز الإخوان المسلمين ممن قدِّموا إلى هذه المحاكمة الجائرة، وفي هذا الإطار يمكننا التمييز بين نوعَيْن رئيسيَّيْن من وسائل الإعلام التي تعمل في مصر، وهما:
* الصحافة القومية والإعلام الحكومي.. بما في ذلك وسائل الإعلام المرئية التابعة لاتحاد الإذاعة والتليفزيون.
* وسائل الإعلام المستقلة.. بما فيها مواقع الإنترنت من مدوناتٍ وصحفٍ إليكترونيةٍ ومواقع إخباريةٍ.
وتناولت وسائل الإعلام المصرية القضية العسكرية بأكثر من اتجاه:
- التغطية الخبرية المجردة والموجزة، وهذه انفردت بها وسائل الإعلام المرئي الرسمية؛ أي التليفزيون الرسمي والقنوات الفضائية التابعة له، مع التركيز على أنَّ هذه النوعية من التغطية ميَّزت نشرات الأخبار التي تبثُّها القنوات التابعة للتليفزيون الرسمي المصري.
- التغطية الموضوعية الموسَّعة، ولا نقصد بعبارة "موضوعية" هنا أنها كانت محايدةً، وإنما المقصود أنَّها لم تقتصر على الحدث، بل تخطَّتْ ذلك إلى مستوى تناوُل الموضوع ذاته بالرأي والاستطلاع، وهذه النوعية من التغطيات كانت ذات اتجاه سلبي في وسائل الإعلام الرسمية بطبيعة الحال؛ بما في ذلك الصحف التابعة للمؤسسات الصحفية القومية، وكانت برامج مثل (البيت بيتك) و(حالة حوار)، وصحف مثل (روزاليوسف) هي الأعلى نبرةً من غيرها في هذا الإطار.
وكان تركيزها في هذا المقام على ما يمكن أنْ يحققه الهدف الإعلامي الرئيسي من وراء المحاكمة، مثل تهم الإرهاب وغسيل الأموال، ولذلك كانت خيبة أملها كبيرةً عندما صدر الحكم بنفي هذه الاتهامات والتركيز على التهمة المعتادة، وهي "الانتماء لجماعة محظورة أُسِّست على خلاف أحكام القانون".
على الجانب الآخر كانت هناك وسائل إعلام ذات مصداقية، وكان بعضها متعاطفًا مع موقف الإخوان المسلمين، وكانت تغطيتها للقضية والحكم إما محاولةً منها لاستقصاء أكبر قدرٍ ممكن من المصداقية والحيادية في التغطية وما تنشره من آراء ومواقف، أو إبداء التعاطف والتأييد الصريحين للإخوان المحاكمين.
هذا الاتجاه كشف الموقف الحقيقي للمحكمة وأحكامها؛ باعتباره من هراوات النظام الغليظة لترويض وتلجيم جَواد الإصلاح في مصر، الذي امتطى الإخوان المسلمون صهوته مع قوى شعبية عديدة أخرى حملت ذات الرسالة.
وإذا كانت المحاكمات العسكرية اختبارًا لوسائل الإعلام فإنَّها كانت اختبارًا للمدونات الإليكترونية بصفةٍ خاصة، وفي حقيقة الأمر فقد نجحت مدونات شباب الإخوان في هذا الاختبار على ضعف الإمكانات المتاحة لها، وضعف خبرة الشباب الناشط فيها، إلا أنهم على الرغم من ذلك نجحوا وحقَّقوا بوسائلهم الفعَّالة غير الاحترافية- مثل كاميرات ومسجِّلات الهواتف المحمولة- انفرادات ولقطات، عجزت عنها وسائل إعلام كانت مدججةً بالأدوات والأسلحة المهنية المختلفة.
كما نجحت المدونات والمواقع الإلكترونية الإخوانية في تحريك حملة تضامينة واسعة النطاق، استقطبت شرائح واسعة من الرأي العام المصري والخارجي مع الإخوان المعتقلين.
وبطبيعة الحال كانت هناك وسائل إعلام لا مبدأ ولا أخلاق لها، واستغلت القضية كمادةٍ للإثارة والتربُّح إعلاميًّا، أو للتقرُّب من النظام الحاكم من دون أنْ يطلب منها ذلك، وهو ما اصطلح إعلاميًّا على تسميته بـ"الصحافة الصفراء".
وهذه الوسائل لجأت إلى عادة قبيحة، ولكنها منتشرة مع الأسف الشديد في الأوساط الإعلامية المصرية، خاصةً ما هو تابع للمؤسسات الإعلامية القومية؛ وهي إطلاق الشائعات غير الصحيحة وتلفيق الأخبار.
وثمة ملاحظة أخيرة في هذا الصدد، وهي أنَّ حكم المحكمة العسكرية قد تم محاصرة التناول الإعلامي له في مصر لسببين:
- رغبةً من الحكم في مصر في احتواء شعبية الإخوان المتنامية، والتي عزَّزها التلفيق الحكومي خلال المحكمة؛ حيث بدا النظام وكأنه راغبٌ في الانتهاء سريعًا من هذا الملف الذي استدعى اسم الإخوان المسلمين لوسائل الإعلام أكثر وأكثر.
- وجود عادة سيئة في الإعلام المصري، وهي أنَّ القضية تموت بعد انتهائها مباشرةً "لانتفاء عنصر الإثارة والترقب" منها.
- وأخيرًا وبغضِّ النظر عن مستوى التغطية والمصداقية وأية مثالب أو إيجابيات لتغطيات الإعلام المصري لحكم العسكرية وللقضية ذاتها؛ فإنَّ التناول الإعلامي عَكَس كافة أمراض السياسة المصرية، ولذلك لا يمكن لوم الإعلام "غير الموضوعي" أو "غير النزيه" بقدر ما يجب لوم نظام خلق هذه الأوضاع.