قبل أن أمسك بالقلم تساءلتُ: تُرى أنلتقي تحت مظلة الدفاع عن حقوق الإنسان لنجدِّد إدانتنا لجرائم التعذيب فحسب؟!

 

وبدا لي- رغم ضرورة وأهمية، بل وقدسية تلك الإدانة- أنني لا أستطيع أن أقدِّم جديدًا؛ فأمامي العديد من المواثيق الدولية والإقليمية والوطنية والدينية التي تجرِّم التعذيب، وأمامي آلاف الصفحات التي تسجِّل جرائم التعذيب وشهادات الضحايا ومحاولات الجلادين التبرؤ مما اقترفوه، ومحاولات من أصدروا الأوامر التنصلَ من مشاركتهم في تلك الجرائم، تُرى أي جديد أستطيع أن أقدِّمه بعد ذلك كله؟! وكدت أتوفق لولا أن خطر لي أمران:

 

الأمر الأول: أنني شخصيًّا كنتُ يومًا- بل أيامًا- واحدًا من ضحايا التعذيب، ولعل شهادةً من الداخل- رغم أنها شهادة مجروحة- قد تكون ذات معنى في مثل هذا اللقاء.

 

والأمر الثاني: أنني من واقع تخصصي في علم النفس السياسي، واستغراقي في قضايا الصراع العربي الصهيوني وتوابعه من صراع عربي- عربي وفلسطيني- فلسطيني، استوقفتني ظاهرةٌ فريدةٌ تمثَّلت في انتقال التعذيب من الأقبية المظلمة، والزنزانات الرطبة، ومحاولات التخفي خلف الأسوار العالية، والسعي الحثيث إلى إنكار اقتراف تلك الجرائم بل استنكارها والتبرؤ منها، إلى تعذيبٍ أشد بشاعةً؛ يحرص مرتكبوه على اقتراف جرائمهم في وَضَح النهار، وعوضًا عن تسجيلها رغمًا عنهم تلصصًا، وتسريبها خلسةً يقوم الجلادون أنفسهم بتسجيل ما ارتكبوه وإذاعته علنًا لمن لم تُتَحْ لهم مشاهدته، متفاخرين بما اقترفوه باعتباره بطولات تنمُّ عن مدى تمسكهم بالمبادئ الأخلاقية والوطنية، بل والدينية الرفيعة.

 

استوقفني كذلك نوع منتشر من التعذيب الخاص؛ تعذيبٍ يمارسه من يقدرون عليه حيال من يستطيعون تعذيبهم من خدمٍ وأطفالٍ ونساءٍ ومنافسينٍ إلى آخر قائمة طويلة من المستهدفين، ولا يجد مقترفو هذا النوع من التعذيب أية غضاضة في الاعتراف بما يقترفونه لخلصائهم؛ باعتباره لا يعدو أن يكون تأديبًا أو تقويمًا، بل ولا يجدون غضاضة في اعتبار القوانين التي تدين هذا النوع من التعذيب تدخلاً في الخصوصيات، بل وقد يعتبرونها دعوة للانحلال والتسبب وخروجًا على صحيح الدين.

 

إنها أنواع من التعذيب الجماهيري، إذا ما صح هذا التعبير، تعذيب تم إعداد الجماهير للحفاوة به والتشجيع عليه، بل وممارسته ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وأظنه الأشد خطورةً والأكثر تدميرًا إذا ما قورن بذلك التعذيب الحكومي التقليدي الذي ألفناه، رغم أن السلطة بمعناها الواسع تعد عاملاً مشتركًا في أنواع التعذيب جميعًا؛ باعتبار أن الجلاد أيًّا كانت صفته بعد ممثلاً لسلطة ما بالنسبة للضحية.

 

التعذيب الحكومي.. خبرة ذاتية

كانت أذهان أبناء جبلي تنصرف عادةً عند الحديث عن التعذيب إلى قيام ممثلي النظام الحاكم بتعذيب المعتقلين السياسيين من الإخوان المسلمين والشيوعيين، وكانت ردود أنصار النظام آنذاك تتراوح بين الإنكار التام لوقوع شيء من هذا القبيل أو التقليل من حجمه واعتباره من قبيل التجاوزات الاستثنائية، أو التماس الأعذار لمن يُقدمون عليه، مضطرين لحماية أمن الوطن أو صحيح الدين.

 

وقد كان مستحيلاً آنذاك للجوء إلى القضاء للنظر في جرائم التعذيب؛ باعتبارها- أي تلك الجرائم- من أعمال السيادة إلى أن تضمَّن الدستور الحالي نصًّا يقضي باعتبار كل اعتداء على الحرية الشخصية أو حرمة الحياة الخاصة للمواطنين وغيرها من الحقوق والحريات العامة التي يكفلها الدستور والقانون.. جريمةً لا تسقط الدعوى الجنائية ولا المدنية الناشئة عنها بالتقادم، وتكفل الدولة تعويضًا عادلاً لمن عليه الاعتداء (مادة 57).

 

لقد تنقلت بين معتقلات القلعة، وأوردي ليمان أبو زعبل، والفيوم والسجن الحربي؛ حيث تعددت ألوان التعذيب الفردي والجماعي بين الضرب والجلد وتكسير الحجارة إلى التجويع والعزل والتهديد، فضلاً عن الإهانات اللفظية، وظل الحرمان من الزنزانات مستمرًّا في كل الأحوال.

 

لقد كتب عن ذلك الكثيرون، وليس لدي مزيد من التفاصيل التي يمكن إضافتها.. ما يعنيني في هذا المقام الإشارة إلى أن التعذيب في تلك المعسكرات، خاصةً في أوردي ليمان أبو زعبل كان أشبه بالتعذيب الذي كانت قد قرأت عنه في معسكرات هتلر النازية (1) فيما عدا أفران الغاز الشهيرة.. كان تعذيبًا لا يستهدف الحصول على اعترافات أو معلومات، بل مجرد سحق شخصية الضحية يجري وفق خطة مبرمجة تحول بين الضحية وأية توقعات بحيث لا يعرف تحديدًا متى ستكون الضربة القادمة ولا على أي جزءٍ من جسده ستقع، ولا ما هو مبررها المباشر.

 

انعدام التوقعات ومن ثم انعدام المعنى عملية مبرمجة مخططة كما لو كنا حيال تجربة معملية لخلق حالة متطرفة من حالات الاغتراب، وقد انهار البعض بالفعل وسقطوا في هوة الاضطراب العقلي الصريح.

 

كان النظام في الأوردي شأن بقية معسكرات؛ يقضي بحظر تبادل الحديث بين المعتقلين وبعضهم البعض، خاصةً بعد إغلاق العنابر عليهم مع نهاية العمل، وهو التعبير الرسمي عن القيام بتكسير البازلت في الجبل، واعتاد الجميع الحديث همسًا؛ فإذا ما ارتفع الهمس ولو قليلاً كانت صيحة الحارس: "امنع الغاغة" (2) تعد نذيرًا بأن عقابًا جماعيًّا إضافيًّا يهدد نزلاء هذا العنبر في الصباح، ورغم ذلك فقد ظل التواصل الهامس مستمرًّا حتى خلال "العمل".

 

لا خصوصية في السجون ومعسكرات التعذيب، إذا كان انتهاك الخصوصية بعد جريمةً يعاقب عليها القانون فإن انتقاء تلك الخصوصية بالنسبة لنزلاء السجون والمعتقلات تصبح هي القاعدة التي تعرِّض من يخرج عليها بعقاب إضافي.

 

في معسكر التعذيب يكون المرء مرئيًّا طوال الليل والنهار، ولعلي لم أحس بصدق المقولة الوجودية الشهيرة "الجحيم في عيون الآخرين" قدر ما أحسست بصدقها في تلك الأيام، ثمة عيون ترقبك دائمًا؛ لا تتلصص ولا تتخفى بل تمارس حقها في اقتحامك جهارًا نهارًا آناء الليل وأطراف النهار، حتى حين يغلق عليك باب "العنبر" فإن ثمة ثقب بالباب تغطية من الخارج "سقاطة" معدنية متحركة تتيح للحارس الجلاد أن يرفعها وقت يشاء ليطل على ضحاياه.. إنها العين ذات الجفن المعدنية (3).

 

ولا يعد السجن الانفرادي خروجًا على هذه القاعدة؛ فالسجين في هذه الحالة لا يكون منفردًا رغم أنه يكون معزولاً عن الجماعة؛ فالجلاد المراقب معه دائمًا وبتركيز أكبر فليس ثمة ما يشغله سواه، الفارق هو عزلة السجين عن رفاقه.

 

إن إطلاق تعبير "التأديب" على زنازين السجن الانفرادي ليس مصادفةً.. إنه أحد الأساليب المفضلة لدى الجلادين لتأديب الضحية بحرمانه من الائتناس بجماعة الانتماء حتى خلال خضوع تلك الجماعة للتعذيب الجماعي، ويزداد التأثير بطبيعة الحال إذا ما كان السجن الانفرادي مصحوبًا بتعذيب انفرادي أيضًا؛ حيث يفتقد الضحية الإحساس بأن ثمة من يشاركونه العذاب؛ مما قد يزيد من تحمله من خلال ثقافة جماعية يتساند من خلالها الضحايا، ولقد مررت بخبرة الحبس الانفرادي أكثر من مرة.

 

أما عن الجلادين فلقد شهدت معسكرات التعذيب المصرية ما عُرف بين المعتقلين باسم "فرقة اللواء همت"، التي كانت تضم جنودًا وضباطًا وصف ضباط من العاملين في السجون يتخصصون في التعذيب الجماعي، أو ما يطلق عليه تعبير "التكديرة".

 

سمعت ممن سبقوني إلى الأوردي وبالتالي كانوا أول من استقبلتهم فرقة اللواء همت أن الجلادين قد انهالوا عليهم بالعصي وهم يصرخون طالبين منهم سب آل البيت، مكرِّرين آخر خبرة لهم، وكانت تعذيب المعتقلين من الإخوان المسلمين، وحين صرخ فيهم قائدهم منبهًا "دول شيوعيين كفرة" تحولت الصرخات فورًا إلى "قولوا لا إله إلا الله يا كفرة".

 

إنهم لم يتلقوا أي نوع من التهنئة الفكرية كما هو الحال مثلاً بالنسبة للجلادين في الدول العقائدية، كل ما تلقوه تدريب متقن على التفاني في الطاعة وتنفيذ الأوامر فورًا دون تفكير.

 

القبول الجماهيري للتعذيب

لعله من اللافت- وإن كان مفهومًا- أن كافة ممارسات التعذيب مهما كانت بشاعتها تتم تحت غطاء فكري بالغ الجاذبية والرقي، بل أنها تتم في كثيرٍ من الأحيان مغلفة بغلاف ديني أو وطني، وتعد عملية التغليف هذه أمرًا لا غنى عنه لتحقيق عدد من الأهداف؛ على رأسها ضمان الحد الأدنى المطلوب من حماس الجلادين؛ لممارسة فظائعهم، فضلاً عن محاولة كسب رأي عام مساند لتلك الجرائم، وهو ما حدث بالفعل في أحيان كثيرة؛ حيث كان التعذيب في نظر الجماهير في العصور الوسطى يبدوا أمرًا عاديًّا، وكان يطلقون عليه تسمية أنيقة هي "الاستجواب القضائي".

 

وقد أحتاج الأمر دهورًا طويلة نزلت خلالها رسالات من السماء واندلعت ثورات على الأرض ونشبت حروب ضروس وأقيمت حضارات وإمبراطوريات كبرى واندثرت أخرى، احتاج الأمر كل ذلك من أجل إقرار حقوق الإنسان وحرياته، ومن ضمنها حقِّه في احترام كرامته الإنسانية وسلامة جسده وقواه العقلية والنفسية، ورغم ذلك فما زلنا نشهد- كما أشرنا- الكثير من مظاهر التعبير عن حفاوة بل وسعادة الجماهير بمشاهدة أو بمعرفة حجم العذاب الذي لحق بالخونة وبالمعارضين المارقين.

 

ولعله من اللافت للنظر أنه لا محل في القانون لتجريم ذلك الاستمتاع وتلك السعادة بمشاهدة وقائع التعذيب والقتل، رغم فيما نرى تعد الظاهرة الأولي بالاهتمام بل والتجريم؛ فانتشار ممارسة التعذيب لا يمكن أن يتراجع بشكل أساسي إلا إذا أصبح سلوكًا مرفوضًا بحق وبعمق وبدون استثناء من القطاع الغالب من أبناء المجتمع، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بتخفيف منابع ذلك القبول الدفين أو المعلَن لممارسة التعذيب بكشف زيف الشعارات والمبررات الدينية أو الوطنية أو الاجتماعية لتعذيب الآخرين، مهما كانت جرائمهم الوطنية أو الأخلاقية أو الدينية.

 

إن عملية إعداد وتهيئة الجماهير للقبول بممارسة التعذيب إنما تستند إلى ثقافةٍ تقوم على ركنين: تقديس العنف، وتقديس الطاعة، ولا سبيل لمواجهة حقيقية وفعالة لهذه الجريمة دون محاولة القضاء على جذورها وخلخلة أركانها، وهي ليست بالمحاولة السهلة.

 

صناعة تقديس العنف

يعد التعذيب نمطًا خاصًّا من أنماط العنف، ويستعمل تعبير التعذيب عادةً لوصف أية عملية تُنزل آلامًا جسدية أو نفسية بإنسان ما وبصورة متعمدة ومنظمة كوسيلةٍ لاستخراج معلومات أو الحصول على اعتراف أو لغرض التخويف والترعيب، أو كشكلٍ من أشكال العقوبة أو وسيلةٍ للسيطرة على مجموعة معينة تشكل خطرًا على السلطة المركزية، ويستعمل التعذيب في كثيرٍ من الأحيان لفرض مجموعةٍ من القيم والمعتقدات التي تعتبرها الجهة القائمة بالتعذيب قيمًا أخلاقية.

 

وتشير المادة الأولى من اتفاقية مناهضة التعذيب إلى أن التعذيب هو "الألم أو العذاب لأي سببٍ من الأسباب يقوم على التمييز أيًّا كان نوعه أو يحرِّض عليه أو يوافق عليه أو يسكت عنه موظف رسمي أو أي شخص آخر يتصرف بصفته الرسمية.

 

نخلص من ذلك إلى أن غالبية أنواع العنف- ومنها ممارسة التعذيب- تعد من أنواع السلوك المكتسب، ومن ثم فإنه لا يمكن التنبؤ باستعداد الفرد لممارسة التعذيب إلا في حدود ضيقة لا تتعدى اكتشاف المصابين بمرض السادية (sadism) (4)، وعلى أية حال فإن هؤلاء المرضى لا يمثلون سوى نسبة ضئيلة جدًّا من السكان وممن يمارسون التعذيب أيضًا.

 

إن اكتساب الفرد للقدرة على ممارسة التعذيب تتم من خلال عملية تدريب اجتماعي يغرس قيمة تقديس العنف بتأكيد أن الشخص القوي مرهوبَ الجانب القادرَ على إلحاق الأذى بالآخرين هو الشخص "المحترم"، في مقابل أن الشخص الهادئ المسالم الذي يلتزم بالقانون ويلجأ إليه للشكوى ورد الاعتداء شخص ضعيف لا يستحق الاحترام.

 

ولكن يبقى سؤال: لماذا تجد ثقافة العنف دعمًا وتشجيعًا لا تجده ثقافة السلام والاحتكام للقانون وإدانة التعذيب؟

 

تؤكد دراسات علم النفس الإعلامي أن رواج سلعة معينة لا يتوقف على مجرد الإعلان عن وجودها وعرض مزاياها، بل إن الرواج الأمثل إنما يتحقق بقيام ثقافة مساندة للسلعة تضمن لها دوامَ وتصاعدَ الطلب عليها.

 

ويتطلب خلق مثل تلك الثقافة تشكيلاً لخريطة الوعي بما تتضمنه من معاييرَ وقيمٍ واتجاهاتٍ بحيث يصبح الطلب على تلك السلعة جزءًا لا يتجزأ من نسيج تلك الثقافة.

 

يصدق ذلك على صناعة السياحة بقدر صدقه على صناعة السينما والسجائر وجراحات التجميل وكذلك الأسلحة.

 

ولعلنا لا نضيف جديدًا إذا ما ذكرنا أن صناعة السلاح تُعد من أضخم مجالات الصناعة وأكثرها ربحيةً؛ ولذلك فمن الطبيعي أن تسعى تلك الصناعة إلى دعم الثقافة التي تساندها وتساعد على ترويجها، وأن تجنَّد لنشر تلك الثقافة- أي الثقافة الحرب- تراثًا ضخمًا من مختلف العلوم الإنسانية، على رأسها الإعلام وعلم النفس بل والتاريخ أحيانًا.

 

ولقد أصدر الصحفي البريطاني جدوين باروز عام 2002م كتابًا مهمًّا بعنوان "صناعة السلاح"؛ استخدم فيه تعبير "المجموعة القذرة"، مشيرًا إلى قائمة الدول التي تتصدر صناعة وتصدير السلاح، وتتربع الولايات المتحدة على رأسها، تليها روسيا، ثم فرنسا، ثم بريطانيا وألمانيا ثم هولندا؛ حيث تستأثر تلك الدول الست بتصدير 85% من السلاح في العالم، ويحتل الكيان الصهيوني المرتبة الثانية عشرة في تلك القائمة، ومن المثير للانتباه أن الدول الأربعة التي تتصدر تلك القائمة أعضاءٌ دائمون في مجلس الأمن المسئول عن السلام العالمي، وأن الدول العربية تتصدر قائمة مستوردي تلك الأسلحة.

 

وهكذا شهدنا- وما زلنا نشهد- عبر سنوات طوال آلاف الأفلام والكتب ودواوين الشعر، بل والدراسات "العلمية" التي تصب جميعًا في تقديس العنف واعتباره جوهر الطبيعة الإنسانية والسبيل الأوحد للحصول على الكرامة والاحترام والحفاظ على الحقوق، ومن ثم لم يعد أمام الدول والجماعات، بل والأفراد، مهرب من غواية التهيؤ لممارسة العف ثم ممارسته ما أمكن ذلك.

 

ولقد امتدت تلك الغواية لتضرب بجذورها في عمليات التنشئة الاجتماعية التي مارسناها ونمارسها كأمهات وآباء، كمربين وتربويين، كإعلاميين ومسئولين؛ نمارسها في بيوتنا، ومدارسنا، ومساجدنا، وكنائسنا، ونوادينا، ومكاتبنا.. تمارسها صحافتنا وإذاعتنا وتليفزيوننا.. نمارسها جميعًا دون استثناء، ومن لم يستطع منا ممارستها بالفعل مارسها بالقول، ومن لم يستطع القول مارسها بالصمت، ولعله الأشد خطرًا.

 

وقد أدت بنا تلك الممارسة إلى حيث لا يجد المرء أمامه لمواجهة مواقف الحياة إلا واحدةً من سبيلين لا ثالث لهما: إما التصدي بالعنف لإزالة ما يحول بينه وبين ما يريد ذلك إذا ما استطاع، فإذا ما لم يستطع ممارسة دور الجلاد وكان الأخر أقوى من إمكاناته لم يعد أمامه إلا السبيل الأخر، وهو الاستسلام دون شروط، وتقبل دور الضحية المستضعفة.

 

وهو في الحالتين ملتزم بالطاعة والانصياع: الطاعة شرط لإتقان التدريب على العنف، وهي أمر مفروغ من حتميته في حالة الاستسلام.

 

تقديس الطاعة

يلعب الاستعداد المفرط للطاعة أو ما يطلق عليه تعبير "المسايرة" حتى فيما يخالف القانون دورًا مهمًّا في إقدام الجلادين على ممارسة التعذيب؛ فهم يستجيبون لأوامر رؤسائهم استجابةً تتسم بقدر كبير من الخضوع، ولا يناقشون هذه الأوامر ولا حتى يفكرون فيها، بل يطيعون رؤساءهم طاعةً عمياء، وينفذون أوامرهم بالتعذيب دون تردد، وغالبًا ما يكون هؤلاء المسايرون من الذين يسهل إقناعهم واستهواؤهم والإيحاء لهم بأن ما يفعلونه فيه مصلحة للبلد أو للبشرية أو لقضية ما.

 

لقد اهتم علماء النفس الاجتماعي بمحاولة التماس تفسيرٍ لسلوك أولئك الذين يُقدمون على التعذيب بالتنقيب في تاريخ حياتهم وما مرَّ بهم من أحداث، ولكنهم لم يعثروا على شيء له دلالة؛ فالعديد من الأفراد الذين كانوا يَبدون عاديين بل وأقرب إلى الطيبة قد تصدر عنهم أفظع أنواع السلوك الوحشي في مواقف بعينها، وخلص العلماء إلى أن الأمر إنما هو أمر مكتَسب؛ يجري الإعداد له والتدريب عليه من خلال المؤسسات الاجتماعية.

 

أجرى عالم النفس الاجتماعي فيليب زيمباردو (philip zimbardo) عام 1973م تجربةً عرفت باسم تجربة سجن ستانفورد نسبةً إلى جامعة ستانفورد الأمريكية الشهيرة التي كان يعمل بهاء، وكانت التجربة مموَّلة من البحرية الأمريكية لمعرفة أسباب الصراع بين المسجونين والحراس، وكان المفترض أن مهنة السجان تغري الساديين بالتقدم لها، ومن ثم فقد كانت المهمة الموكولة إلى زيمباردو هي التوصل إلى سبيلٍ لاستبعاد الساديين من كشوف المقبولين لشغل تلك الوظائف، غير أن زيمباردو فضَّل القيام بدراسة تجريبية لاختبار احتمال آخر مؤداه أن تكون بيئة السجن في حد ذاتها هي منبع تلك الظاهرة؛ وذلك في ضوء نظرية من نظريات علم النفس الاجتماعي تعرف بنظرية الأدوار؛ بمعنى أن الأدوار التي يسند المجتمع إلى الأفراد أداءها هي التي تشكِّل أداء أولئك الأفراد.

 

قام زيمباردو بالإعلان في إحدى الصحف عن حاجة جامعة ستانفورد لمتطوعين ذكور لإجراء دراسة نفسية عن حياة السجن مقابل 15 دولارًا للمتطوع يوميًّا، وتم اختيار 24 متطوعًا من الطلاب الجامعيين تأكد أنهم وفقًا لنتائج المقاييس النفسية عاديون أسوياء، ثم قام بتقسيمهم إلى مجموعتين على نحوٍ عشوائي بحيث يلعب نصفهم دور المسجونين والنصف التالي دور الحراس؛ وذلك بعد أن تم تحويل بدروم جامعة ستانفورد إلى ما يشبه السجن الحقيقي بزنازينه وأبوابه وفنائه، فضلاً عن ثياب وشارات السجانين المتمايزة عن المسجونين، إلى آخره.

 

وزيادةً في فاعلية التجربة قام البوليس بالاتفاق مع الجامعة بإلقاء القبض على من سيقومون بدور المسجونين من منازلهم واصطحابهم إلى مقر الشرطة؛ حيث عُصبت عيونهم ثم نقلوا إلى سجن ستانفورد دون أن يعرفوا العلاقة بين ما يجري والتجربة التي وافقوا على التطوع للمشاركة فيها، وتلقَّاهم السجانون بملابسهم ونظاراتهم السوداء مما يوحي أنهم شرطة حقيقية؛ معهم كل الصلاحيات، وفي أيديهم الهراوات، مع رزمة المفاتيح وكذلك كاميرات الفيديو والمسجلات الصوتية لرصد كل ما يجري داخل الزنازين.

 

وحال وصولهم (المساجين) نُزعت ملابسهم وسُجِّلت أسماؤهم بحيث تحوَّل كل منهم إلى مجرد رقم.

 

وتم تنظيفهم بحمام جماعي ولبسوا ملابس السجن المتهرئة دون أي ملابس داخلية، ووضعت السلاسل في أقدامهم.

 

وكان المفترض أن تستمر التجربة 14 يومًا، ولكن الاندماج في الأدوار أخذ في التصاعد بعد ثلاثة أيام حتى تحوَّل إلى مناخٍ إرهابي حقيقي؛ مما أدى إلى إيقاف التجربة بعد أن وصل الأمر بالسجانين إلى حرمان المعتقلين من قضاء حاجاتهم الإنسانية فغرقوا في قذارتهم، ودفع البعض إلى ممارسة اللواط، وتعددت حالات الانهيار البدني والعقلي بين المعتقلين.

 

إلى هذا الحد كان تأثير تصور الدور في خلق الجلاد، وعدت بذاكرتي إلى واحد من سجاني أوردي ليمان أبو زعبل الشهير.

 

كان رجلاً فقيرًا بسيطًا، ولكنه كان جلادًا مفرطًا في إخلاصه في أداء دوره إلى حد أنه ذاته يومًا استغرق في ضرب المعتقلين داخل أحد العنابر إلى أن سقط مغشيًّا عليه، وأصابنا الرعب خشية أن نتهم بقتله مثلاً، وهرع إليه أحد الأطباء من المعتقلين وقام بإفاقته وهمس في أذنه وهو في بداية مرحلة التنبه وقد استعاد دوره كطبيب يُزجي النصح لواحد من مرضاه: "لماذا تجهد نفسك إلى هذا الحد؟"، وكانت إجابة السجان: "اللي يأخذ أجر ربنا يحاسبه على العمل" باعتبار أن ما يؤديه من تعذيب إنما هو عمل مكلَّف بأدائه يتقاضى عليه أجرًا، وعليه أن يحسن أداء هذا العمل.. كان الجلاد مخلصًا بالفعل فيما يقول.

 

من هم الجلادون؟

عالم آخر من علماء النفس الاجتماعي هو ستانلي ميللجرام (stanly milligram) الذي التقيت به شخصيًّا في جامعة نيويورك سيتي (city university of new york) عام 1983م قبيل وفاته في العام التالي، وتحادثنا حديثًا عابرًا حول تجاربه الشهيرة وكيف استوقفته بشاعة التعذيب الذي كان يمارسه الجلادون في المعسكرات النازية الشهيرة، ودفعتُه إلى التساؤل: "تُرى.. كيف يمكن أن يطيع الإنسان أوامر تصدر إليه متعارضة مع كافة القيم الإنسانية؟ وكم نسبة أولئك الذين يمكن أن يطيعوا مثل تلك الأوامر؟".

 

ووجه ميللجرام هذا السؤال إلى عدة مئات من المثقفين والمهنيين، ومنهم العديد من المتخصصين في علم النفس والعلوم الإنسانية في الولايات المتحدة الأمريكية، وكان متوسط تقديراتهم أن نسبةً لا تتجاوز 4% أو 5% من الأمريكيين يمكن أن يكون لديهم الاستعداد لتنفيذ مثل تلك الأوامر.

 

وحاول ميللجرام اختبار الأمر تجريبيًّا (سلسلة التجارب المعملية الشهيرة التي عرفت في تاريخ علم النفس الاجتماعي باسم تجارب الطاعة "obedience")، واستمرت تلك التجارب من عام 1960م حتى عام 1964م في "جامعة ييل (yale university) بالولايات المتحدة الأمريكية، وكان الهدف هو دراسة عملية الطاعة في موقف تجريبي معملي حين يؤمر الشخص بإيذاء الآخرين، واقتضت التجربة أن يقوم "ميللجرام" بنشر إعلان في صحيفة محلية؛ دعا فيها إلى المشاركة في دراسة عن الذاكرة والتعلم، وأن المتطوع سوف يتقاضى أربعة دولارات وخمسين سنتًا عن كل ساعة من ساعات المشاركة، وتم إعداد جهاز للتعذيب الكهربائي الوهمي يحتوي على 30 مفتاحًا وُضعت في خط أفقي، وكل مفتاح مرقم بعدد الصدمات الموجَّهة، وتبدأ من 15 فولتًا إلى 45 فولتًا بزيادة 15 فولتًا بين المفتاح والآخر من اليسار إلى اليمين، بالإضافة إلى كتابة مستوى الصدمات لكل مجموعة مكونة من أربعة مفاتيح، وهي كالآتي: صدمة خفيفة- صدمة معتدلة- صدمة قوية- صدمة قوية جدًّا- صدمة حادة- صدمة حادة جدًّا- صدمة قاسية.

 

وتم الاتفاق مع أحد مدرسي البيولوجيا بالجامعة، والذي يبلغ من العمر 31 عامًا، على لعب دور المشرف على التجربة، وأن يحرص خلال أدائه لدوره على أن يبدوَ في معطفه الرمادي متلبدًا متجهمًا صارمًا، كما تم الاتفاق أيضًا مع أحد الموظفين الإداريين بالجامعة، يبلغ من 47 عامًا، على القيام بدور المتعلم (الضحية) بعد أن تم تدريبه على إتقان تجسيد ملامح وصرخات من يعاني ألمًا بحيث يصبح (المعلم) الذي سوف ينفِّذ التعليمات بإيقاع العقاب المؤلم على يقين تام من أنه يوقع ألمًا حقيقيًّا بالضحية.

 

وقد شملت العينة أفرادًا تباينت مستوياتهم التعليمية؛ من الحاصلين على الثانوية إلى الحاصلين على الدكتوراه، وقد كان 40% من العمال المهرة وغير المهرة و40% من الموظفين و20% من المهنيين، وتراوحت أعمارهم بين العشرين والأربعين.

 

وتبدأ التجربة باستدعاء شخصين من أفراد العينة؛ أحدهما ذلك الموظف الذي سبق تدريبه على لعب دور الضحية؛ حيث يشرح لهما المجرِّب المزعوم أن "الهدف من التجربة معرفة أثر العقاب على التعلم، مشيرًا إلى أن هناك نقصًا شديدًا في هذا النوع من الدراسات، وأننا على سبيل المثال لا نعرف إلى أي حد يفيد العقاب في التعلم أو الفرق بين توجيهه إلى الأعمار المختلفة؛ "ولذا فإنني أطلب من أحدكم أن يكون معلمًا والآخر أن يكون طالبًا، وسوف يكون ذلك عن طريق القرعة؛ فقد كتبت على ورقة كلمة معلم والثانية كلمة طالب فليسحب كل منكم ورقة لتحدد دوره".

 

غير أن الورقتين كانتا تحتويان على كلمة معلم، وبعد سحب القرعة المزيفة يتوجه الفردان إلى غرفة مجاورة؛ حيث يجلس الطالب المزعوم مربوطًا على كرسي.

 

ويشرح المجرب الهدف من تقييده بأنه لمنع الحركات المتزايدة عند توجيه الصدمات وأيضًا لعدم إتاحة الفرصة أمامه للهرب وعدم استكمال التجربة، ثم يتم بتوصيل قطب كهربي بمعصم الطالب مع تأكيد أن هذا القطب متصل بالمولد الكهربي الموجود في الغرفة المجاورة.

 

ويكون على (المعلم) قراءة سلسلة من أزواج الكلمات؛ يطلب من (المتعلم) تكرارها وعقابه إذا أخطأ في ذلك بإعطائه صدمة كهربائية عن طريق جهاز مولد الصدمات، وعليه زيادة شدة الصدمة الكهربائية كلما تكرر الخطأ.

 

وكان على (المتعلم) أن يرتكب العديد من الأخطاء حسب الخطة الموضوعة لكي يصل (المعلم) إلى ذروة الصدمات المؤلمة.

 

وقد تعدلت أشكال إجراء التجربة لرصد تأثيرات مثل: أن يكون الطالب (الضحية) في حجرة مجاورة بحيث لا يصل إلى المعلم سوى صوته، أو أن يكون على مرمى بصره بحيث يشهد أيضًا تعبيراته عن الألم، أو أن تكون التجربة نسائية؛ تلعب فيها الإناث أدوار الطالبة (الضحية) والمعلمة إلى قائمة طويلة من التعديلات والتغييرات في تفاصيل التجربة، وقد اتضح في النهاية أن شيئًا من تلك التغييرات لا يكاد يؤثر على مستوى الطاعة.

 

وقد كانت النتيجة صادمة بكل المقاييس، حتى إن عالم النفس توماس بلاس نشر عن ملليجرام عام 2002م مقالاً يحمل عنوان "الرجل الذي صدم العالم": "لقد كشف ميللجرام النقاب عن استعدادٍ غلاّبٍ لدى الأمريكيين للطاعة وتنفيذ الأوامر حتى لو اقتضى الأمر تعذيب الآخرين، وأن هؤلاء المتطوعين أفراد عاديون لا يعانون من اضطرابات نفسية كالسادية مثلاً، وأنهم لا يقدمون على ما أقدموا عليه تحت ضغط تهديد أو إغراء من سلطة قاهرة.

 

إنهم مجرد متطوعين للمشاركة في تجربة علمية؛ لا يتقاضون مقابل تطوعهم سوى عدة دولارات فقط.

 

استغرقت تجارب ميللجرام من 1960م حتى 1964م، ولم تلبث أن انتشرت التجارب في أستراليا وجنوب إفريقيا والعديد دول من أوروبا.

 

وقد قمتُ بعد ذلك بالإشراف على عدد من البحوث التي أجراها أبنائي المصريون للحصول على درجاتهم العلمية، متبعين نفس أسلوب تجارب ميللجرام، ولم تكن النتائج لدينا تختلف كثيرًا عنها في أي مكان في العالم؛ حيث تراوحت نسبة من يصلون إلى النهاية القصوى في إطاعة الأوامر دون الإقدام على الانسحاب من التجربة بين 60 و66%.

 

الطاعة الخبيثة.. لماذا؟

لقد أسفرت تلك التجارب عن نتيجة صادمة بكل المقاييس: ثمة "طاعة خبيثة" تسري في أوصال المجتمعات الحديثة، وحاول ميللجرام البحث عن الظروف التي تؤدي بالفرد إلى ذلك النوع من الطاعة، فصكَّ تعبيرًا يصعب ترجمته عربيًّا بكلمة واحدة: (agent state)، وهي مشتقة من مصطلح "العميل أو الوكيل أو الممثل أو المندوب agent" بمعنى أن الفرد يدرك نفسه باعتباره مجرد كائن ضعيف لا يعدو أن يكون ممثلاً أو تابعًا لآخر أو لآخرين أو لمؤسسة، حتى لقوة معنوية غير منظورة، وأنه في هذا الموقف يتنازل تمامًا عن حريته في اتخاذ قرارات مستقلة، وبالتالي لا يتحمل أية مسئولية عن أفعاله أو حتى أفكاره.

 

والمسئولية يتحملها من يُصدر له الأوامر، وحتى أولئك الذين يصدرون الأوامر المباشرة (لاعب دور المجرب في حالة تجارب ميللجرام) قد يصدرون تلك الأوامر في ظل تلك الحالة نفسها؛ بمعنى أنهم إنما يحرصون على إرضاء من أصدر لهم الأوامر، فيحيلون المسئولية إلى المستوى الأعلى، وهكذا.

 

لقد شغلت هذه المشكلة منذ حوالي نصف القرن عالم النفس الشهير إريك فروم الذي أصدر كتابًا ذاع صيته وتجاوزت أعداد طبعاته الحد المألوف، وكان عنوانه "الهروب من الحرية".

 

لقد استوقفت فروم ظاهرة التفاف غالبية مواطنيه من أبناء الشعب الألماني حول هتلر الدكتاتور العنصري الذي لم يُخْفِ يومًا عنصريته أو دكتاتوريته.

 

وهاجر فروم من وطنه الأصلي ميمِّمًا صوب الولايات المتحدة الأمريكية حصن الحرية وملاذ الأحرار، ولم يَمْضِ زمن طويل وإذا به يكتشف نفس الظاهرة تفصح عن نفسها جليَّةً في أعماق من تعامل معهم من الأمريكيين.

 

وتوصل فروم إلى أن المجتمع في مرحلة معينة من مراحل تطوره السياسي والاجتماعي والاقتصادي يشكل أبناءه ويُنشئهم على النفور من الحرية بحيث يضيقون بحريتهم أشد الضيق، ويسعون ما وسعهم الجهد إلى اكتشاف "البطل" الذي يتيح لهم التخلص من أغلالها فيسارعون إلى الالتفاف حوله والسير وراءه والانصياع لتوجيهاته دون تفكير أو تردد.

 

ربما بدا الأمر للوهلة الأولى متناقضًا يصعب التسليم به؛ فالدول والجماعات جميعًا- وبلا استثناء واحد ومهما كانت بشاعة وحشيتها- تعلن أنها محبة للحرية ساعية إلى تحقيقها.

 

ولو نظرنا في بلادنا لوجدنا كافة التيارات السياسية المشروعة وغير المشروعة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار تعلن جميعًا أن الحرية هي الهدف المقدس والنهائي الذي تسعى إليه.

 

فلنقترب قليلاً من شعارات الدعوة إلى الحرية في بلادنا ولدى غيرنا أيضًا لنكتشف أن ثمة كلمة ثابتة تلتصق بغالبية تلك الشعارات.. إنها كلمة "ولكن".

 

نحن مع الحرية طبعًا ولكن لسنا مع الفوضى.

الحرية كل الحرية للشعب ولكن لا حرية لأعداء الشعب.

الحرية للوطنيين الحقيقيين ولكن لا حرية للعملاء والمندسِّين.

كل الحرية للأفكار البنَّاءة الشريفة، ولكن لا حرية للأفكار الهدَّامة المستوردة.

كل الحرية لأنصار التقدم ولكن لا حرية للرجعيين أنصار التخلف.

الحرية قيمة مقدسة ولكن في حدود الالتزام بثوابتنا الدينية والوطنية.

 

الحرية كل الحرية للمتدينين الطيبين المتمسكين بأوامر الله ولا حرية لغيرهم من الكفرة والمنحلِّين.

 

وحتى داخل التيارات الليبرالية تجد من يقول كل الحرية لأنصار الحرية ولكن لا حرية لأعدائها أنصار الحكم المطلق.

 

قد تبدو كل تلك الشعارات براقةً حتى نصل إلى تلك الكلمة المفتاحية "ولكن"؛ فإذا ما تساءلنا: وكيف يمكن التفرقة؟ من الذي يستطيع الفوز والتميز؟ كان جوهر الإجابة أن صاحب الشعار هو المرجعية الأولى والأخيرة للتمييز بين العملاء والوطنيين.. بين الأفكار البنَّاءة والهدَّامة.. بين التقدميين والرجعيين.. بين الثوابت والمتغيرات الدينية والوطنية.

 

خلاصة القول:

إن إدانة التعذيب والتصدي له واجب مقدس، ولكن اجتثاث الجذور أو تجفيف المنابع الثقافية المغذية له ينبغي أن تكون فرض عين على الجميع بحيث نجرِّد أنفسنا قبل غيرنا من نزعات تقديس العنف وتقديس الطاعة، وأن نؤكد لأنفسنا ولغيرنا أنه استثناءات في إدانة التعذيب أيًّا كانت نوعية الجرائم.. إنها معركة صعبة تحتاج إلى نفس طويل.

 ---------

حواشٍ:

1- يمكن الرجوع في هذا الصدد إلى كتاب المحلل النفسي برونو بتلهايم "القلب العارف"، وكذلك كتاب المعالج النفسي فكتور فرانكل "البحث عن معنى"؛ حيث يعرض كلاهما لخبرته المباشرة كنزيلٍ في تلك المعسكرات النازية.

 

2- الغاغة: عامية: إحداث ضوضاء واضطراب وجلية وفوضى وخروج عن النظام. انظر سامح فرج، معجم فرج للعامية المصرية والتعبيرات الشعبية للصناع والحرفيين المصريين.

 

3- عنوان كتاب صدر لشريف حتاتة عن ذكرياته خلف القضبان.

 

4- اضطراب نفسي يعني استمتاع الشخص برؤية الآخرين وهم يتألمون وحصوله على نشوة نفسية من القيام بتعذيب الآخرين وإذلالهم.

-------

** أستاذ علم الاجتماع جامعة عين شمس