م. محمود المرسي

صناعة الإجرام

لا أعرف اسمه، ولا أذكر شكله، ولكن لم أنسَ حكايته التي زلزلت كياني، إنه فتى في مقتبل العمر، ربما في الثامنة عشرة أو حولها، أقبل علينا أنا وأخ لي ونحن في سجن المحكوم، ويا له من مكانٍ بشعٍ رهيب، أقبل والدمع يذرفُ من عينيه قائلاً: ممكن سؤال يا عم الشيخ- فنحن السياسيين نُسمَّى مشايخ في نظر الجنائيين من نزلاء السجون، قلنا تفضل.. طأطأ رأسه وبدأ الحديث فقال:

 

أنا جئتُ إلى هنا في سيجارتين بانجو (مخدرات يعني) أولاد الحرام- على حدِّ تعبيره- أغووني وأنا ضعفت أمامهم، وجاءت كبسة (يقصد دورية شرطة)، فأخذتنا ورمونا هنا، وأنا والله ابن ناس، لكنهم حشروني في زنزانة سبعة ونصف في اثنين ونصف متر مع أربعين سجينًا، وكلنا ننام متلاصقين بطريقةٍ غير آدمية، ثم نكَّس رأسه أكثر وذرف الدمع من عينيه أكثر وقال: وأولاد الـ.. يستخدموني (يقصد أنهم يفعلون معه فعل قوم لوط)، ثم انفجر في البكاء واستأنف قائلاً: وأنا غير قادر عليهم؛ فهم يضربونني ثم إنني تعلَّمتُ هنا تعاطي ألوان أخرى من المخدرات، ماذا أفعل؟".

 

انتهت حكاية هذا البائس المسكين، وبغض النظر عن بقيةِ الحكاية وما فيها من مآسٍ تحتاج إلى أن نعيش معها كثيرًا، فإنَّ لنا وقفاتٍ وملاحظات.

 

هل يتم التعامل مع مثل هؤلاء الأشخاص بالطريقة المناسبة لمنعهم من تكرار جرائمهم، وللإجابة عن هذا السؤال لا بد من معاودة قراءة السطور السابقة، فهي برهان صادق على أن معالجة الأمر ليس مناسبًا بالمرة، بل إنه يُدفع أمثال هذا الفتى إلى تعلُّم المزيد من الجرائم والتمرغ في أوحال الرذيلة والفساد.

 

فالفتى الذي جاء متهمًا بتعاطي البانجو (بالحق أو بالباطل) سيخرج من سجنه وقد عرف ألوانًا أخرى من المخدرات، ومارس لونًا من الرذيلة لم يكن يمارسه من قبل- والسؤال ما السبيل إلى العلاج إذًا؟.

 

للإجابة أيضًا على هذا السؤال لا بد من معرفة الظروف والملابسات التي أدَّت إلى هذا الفتى إلى مثل هذا المصير.. أتصور أنَّ الفراغَ القاتلَ الذي يُعانيه الشباب في ظل غياب القيم والأخلاق، وفي ظل مطاردة الأجهزة الأمنية لكل ممسكٍ بدينه فاعل في مجتمعه نافع للناس، كل ذلك من بين الأسباب التي تؤدي بالشباب إلى عالم الفساد بأنواعه.

 

ومن بين الأسباب أيضًا انهيار التعليم في مصر على كافةِ مستوياته مما يخلق أجيالاً متخلفة تُعلي من قيمةِ المتعة على كلِّ القيم، وترفع لواء الدينار والدرهم فوق لواء الأخلاق والفضيلة، وأنشأ أجيالاً لا تعرف الصلاح والإصلاح بل تُتقن ألوان الفساد والإفساد.

 

كذلك الانهيار الذي حلَّ بكيانِ الأسرة المصرية، والذي دبَّر له مؤتمر بكين في المؤتمرات المشبوهة، التي تجد الرعاية الرسمية والحرص على تنفيذ توصياتها واتخاذها دستورًا للحياة، مما أدَّى إلى غياب دور الأم والأب والأسرة، وعدم رعايتهما لأبنائهما، وربما عدم قدرتها على ذلك أصلاً؛ مما ساهم في إيجاد هذا الجيل الضائع التائه.

 

والذي تولى أكبر هذا الفساد هو آلة الإعلام الفتَّاكة التي روَّجت للجنس والمخدرات والفساد الأخلاقي، وأعلت من قيمة المادة على حساب الأخلاق والفضيلة، وكان لها الدور الأكبر في انهيار كيان المجتمع المصري، وكان من الممكن أن تؤدي وسائل الإعلام على اختلاف أنواعها وأطيافها إلى بناءِ مجتمعٍ قوي متماسك يبني ولا يهدم يعمر ولا يدمر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

 

لو أضفنا إلى كل ذلك الانهيار الاقتصادي والفساد السياسي والاستبداد وغياب القدوة وضعف الوازع الديني، وثالثة الأثافي وهي غياب إرادة الإصلاح على المستوى الرسمي، بل وإحلال إرادة الإفساد محلها.

 

هذه- أيها السادة- بإيجازٍ شديدٍ بعض أسباب مآل هؤلاء الشباب إلى عالم السجون، وبالتالي إلى عالم الفساد والرذيلة ومزيد من الجريمة، وكان بالإمكان دعوة الدولة إلى وضع خطط للإصلاح أو التحرك لإنقاذ هؤلاء الشباب، ولكني أرى أن ذلك من العبث؛ حيث إنَّ نظامنا الحاكم لا يريد إصلاحًا، فهو قابع على أنفاس هذا الشعب منذ سبعة وعشرين عامًا تقريبًا شاب فيها الشباب ونشأ فيها الصبية، وفارق كثيرٌ من الشيوخ هذه الحياة، فكل فسادٍ اليوم ترعرع ونما في ظل هذا النظام، فهم يحملون وزر هذه الحالة المذرية التي آل إليها حال أمتنا، ولا أظن أنه يُرجى منهم صلاح أو إصلاح.

 

لذلك فالنداء بل الصرخة نوجهها إلى الآباء والأمهات والمصلحين والغيورين على هذا الوطن؛ لمحاولة إنقاذِ هذه الأجيال من المزيد من الضياع قبل أن ندفع جميعًا الثمن غاليًا.

 

ختامًا.. أعتقد أنه قد اتضح بما لا يدع مجالاً للشك أن الإجراءات والتدابير المتبعة مع المتهمين في عالم الجرائم لا تنتج أثرها المرجو، بل تأتي بنتائج عكسية تمامًا.

ما الحل إذًا، هذا ما سنُحاول عرضه في الحلقة القادمة إن شاء الله.