احتفلت مدينة معرة النعمان السورية، كبرى مدن محافظة إدلب، شمال غربي البلاد، الجمعة، بذكرى الثورة السورية الـ14، تلك الثورة التي كان لأهل المعرة فيها بصمة لا تُمحى منذ أيامها الأولى. آمن أبناء المدينة بقضيتهم، فكانوا في طليعة الثائرين بمختلف المجالات، كما كانت حاضنةً للثوار من شتى بقاع سورية على مدار 14 عاماً من القصف والتهجير والمعاناة.

 

ولا يُعدّ اختيار هذا اليوم للاحتفال بذكرى الثورة محض مصادفة، بل يعود إلى تاريخٍ محفورٍ في ذاكرة المدينة. ففي 21 مارس 2011، شهدت معرة النعمان أول تجمعٍ لأبنائها في تظاهرة تضامناً مع أهالي درعا، يومها اجتمع شبان المعرة ومثقفوها للتخطيط ليوم 25 مارس، حيث انطلقت أولى تظاهرات المدينة من المسجد العمري الكبير، هذا المسجد الذي بقي شاهداً على أصوات الأحرار، منذ انطلاق الثورة وحتى قُبيل أيام من سقوط المدينة بيد قوات نظام الأسد في 28 يناير2020، بعد أن دمّر القصف نحو 70% من معالمها، وأجبر حوالي 80 ألفاً من سكانها على النزوح شمالاً. وفي نوفمبر من عام 2024، استعادت فصائل المعارضة السيطرة على المدينة ضمن معركة "ردع العدوان"، في خطوة اعتبرها كثيرون انتصاراً لمدينة لم تنكسر رغم كل ما حلّ بها من دمار ومعاناة.

 

وعبّر محمد الضاهر، أحد نشطاء مدينة معرة النعمان وأحد مؤسسي مركز المعرة الإعلامي الذي تحول لاحقاً إلى المركز الإعلامي العام، في حديث لـ"العربي الجديد" عن مشاعره، قائلاً: "أجمل شعور للنصر هو أن تعيشه في بلدك، في مدينتك التي ضحيت من أجلها، وقدمت الغالي والنفيس في سبيل حريتها. اليوم، يمر أمام عيني شريط من الذكريات التي لا تُمحى أبداً، رفاق دربي من شهداء المدينة، أبناؤها الثائرون، تاريخها العريق وجدرانها القديمة، جميعها انتصرت على آل الأسد".

وأضاف الضاهر: "عندما كنت سابقاً في المعرة لم أشعر يوماً باليأس، رغم كل ما واجهناه من قصف ودمار. وعندما هُجّرتُ قسراً من المعرة، كنت على يقين بأنني سأعود إليها يوماً منتصراً، لا بمفردي، بل مع أهلها جميعاً. وها أنا اليوم أعيش تلك اللحظة التي كنت أؤمن بها دائماً، اللحظة التي لطالما حلمت أن تتحقق". مشاعر مختلطة من الفرح والفخر غمرت الضاهر وهو يستعيد ذكرياته في المدينة التي لطالما اعتبرها رمزاً للصمود، مدينةً لم تخذل أبناءها يوماً، وعادت لتحتضنهم بعد سنوات من الغياب والتهجير.

 

من جانبه، قال الناشط هادي العبد الله، ابن مدينة القصير في محافظة حمص، والذي عاش سنوات طويلة من الثورة في معرة النعمان، في حديث مع "العربي الجديد": "اليوم، أعيش لحظة لطالما انتظرتها، لحظة الاحتفال بذكرى الثورة السورية الـ14 في مدينة معرة النعمان، هذه المدينة التي كانت على الدوام حضناً دافئاً للثوار، وبيتاً مفتوحاً لكل من آمن بالحرية وسعى لنيلها. هذه الذكرى ليست كغيرها، فهي المرة الأولى التي نحيي فيها ذكرى الثورة هنا بعد سقوط نظام بشار الأسد المخلوع، بعد سنوات من الصمود والتضحيات التي جسدت معاني الثورة في أسمى صورها".

وأردف العبد الله: "معرة النعمان لم تكن مجرد مدينة مررت بها أو عشت فيها، كانت جزءاً من كياني، صفحة من حياتي خطّت تفاصيلها بالدموع والصبر والصمود. المعرة كانت قبلة للثائرين ومنارةً أضاءت سماء إدلب، حملت شعلة الحرية، وأبت أن تنطفئ رغم كل ما تعرضت له من قصف وتدمير وتشريد. في كل زاوية من شوارعها حكاية بطولة، وفي كل بيت منها ذكرى شهيد أو جريح أو معتقل صمد في وجه الاستبداد".

 

وتابع العبد الله: "أتذكر كيف كانت معرة النعمان تجمعنا كأبناء للثورة، ناشطين وصحافيين وأطباء ومقاتلين، جميعنا وجدنا فيها ملاذاً ومكاناً نشعر فيه بالأمان رغم المخاطر التي كانت تحيط بنا من كل جانب. أهل المعرة كانوا أهلنا، شاركونا طعامهم ومنازلهم وأحزانهم وأفراحهم، فكيف لا تصبح هذه المدينة أقرب إلى قلبي حتى من مدينتي الأم، القصير؟".

 

وأشار العبد الله، إلى أنه "عندما أجبرتني آلة الحرب الأسدية على مغادرة القصير، شعرت أنني فقدت جزءاً من روحي، لكن معرة النعمان عوضتني عن ذلك. وجدت بين أزقتها وبين وجوه أهلها دفئاً جعلني أشعر وكأنني بين أهلي وأحبتي. كانوا سنداً لنا في أصعب الأيام، فتحوا بيوتهم وقلوبهم ولم يبخلوا علينا بشيء". ولفت العبد الله، إلى أنه "رغم الجراح العميقة التي أصابت المعرة، ورغم الأنقاض التي غطت كثيراً من معالمها، إلا أنها اليوم تحتفل بذكرى الثورة الـ14 كمدينة منتصرة، مدينة وقفت في وجه محاولات نظام الأسد طمس هويتها وتاريخها. حاول النظام عبر القصف والدمار والتهجير أن يمحو بصمة المعرة من خريطة الثورة، لكنه فشل. بقيت المعرة رمزاً للصمود، وستظلّ كذلك".

 

وشدد العبد الله على أن "هذه المدينة ستبقى جزءاً من ذاكرتي ووجداني، كما القصير تماماً، وأهل المعرة سيبقون أهلي وإخوتي الذين تشاركنا معهم سنوات الألم والأمل معاً. المعرة لم تكن يوماً مجرد مكان، بل كانت قصة كفاح وصمود ستُخلّد في كتب التاريخ، وستبقى منارةً تضيء درب الأحرار أينما كانوا".

شهادات في ذكرى الثورة السورية

بدوره، قال الناشط أحمد الجربان، أحد أبناء مدينة معرة النعمان وأحد المشاركين في احتفالية الذكرى الـ14 للثورة السورية في المدينة، خلال حديث لـ"العربي الجديد"، "اليوم، أعجز حقاً عن التعبير بالكلمات عن المشاعر التي تجتاحني وأنا أقف هنا، في ساحة الحرية وسط مدينة معرة النعمان، محاطًا بأحرار المعرة وريفها، بعد خمس سنوات من التهجير والغياب القسري عن هذه المدينة التي تحتل مكانة خاصة في قلبي".

 

وأضاف الجربان: "هذه الساحة بالتحديد لها أثر كبير في وجداني ووجدان كل أبناء المعرة، فهي ليست مجرد ميدان، بل هي شاهدة على بداية الحكاية... حكاية الناس المكلومة منذ 14 عاماً. من هذه الساحة صدحت أولى الهتافات المطالبة بالحرية عام 2011، حيث علت أصواتنا مرددة: بالروح بالدم نفديكِ يا درعا. هنا، في هذه الساحة، صدح شهيدنا أحمد السعيد بصوته الثائر، وهنا وثّق شهيدنا وسيم العدل تلك اللحظات بكاميرته التي حفظت جزءاً من تاريخ الثورة".

 

ولفت الجربان إلى أن "هذه الساحة نفسها كانت هدفاً دائماً لنظام الأسد وحلفائه، حيث حاولوا إسكات صوت الأحرار عبر ارتكاب مجازر متكررة بحق المدنيين فيها. ورغم محاولاتهم المتكررة لمحو معالمها، فإن الساحة بقيت شامخةً إلى جوار مئذنة المسجد الكبير، تلك المئذنة التي تحدّت الغزاة من الروس والإيرانيين وحزب الله، وصمدت كرمزٍ للمعرة ورمزٍ للحرية". وأردف الجربان: "يمرّ في ذاكرتي شريطٌ طويل من الذكريات... أتذكر كيف كنا نوثّق التظاهرات، نقيم الوقفات الاحتجاجية، ونرفع اللافتات في معرة النعمان، رغم كل الظروف العصيبة التي مرت بها الثورة. لم تتوقف المعرة يوماً عن التظاهر، حتى في الفترات التي خفّ فيها الحراك السلمي في كثير من المحافظات السورية".

 

وأكد الجربان أنه "لا يمكنني هنا إلا أن أستذكر مهندس التظاهرات في المعرة، الناشط الثوري بحر نحاس الذي كان يحمل بيديه اللافتات وأعلام الثورة، ويعدّها مع مجموعة من أحرار المدينة، ثم ينزلون بها إلى هذه الساحة، رغم أن الطيران كان يحلق في أجواء المنطقة بشكل مستمر"، مشيراً إلى أن "معرة النعمان كانت دائماً وفيةً لأبنائها، لم تخذل أحداً يوماً، ولم تتخلَّ عن حقّ مظلوم قط".

 

وأوضح الجربان: "اليوم، رغم ما يكسوها من دمار وخراب غطّى أرجاء المدينة، نقف مجدداً في هذه الساحة لنؤكد أن الثورة السورية لم تكن مجرد حدثٍ عابر، بل كانت مسيرة شعب قرر انتزاع حريته وبناء مستقبله، مهما كانت التضحيات. معرة النعمان، التي كانت وستبقى منارة الثورة ونقطة تجمع لمئات الآلاف من أحرار أريافها، أبت إلا أن تحضر هذا الحدث التاريخي، رغم كل الظروف التي تعيشها". وأشار إلى أن "وقفتنا اليوم في هذه المدينة هي رسالة واضحة بأن المعرة لم تنكسر، ولن تنكسر أبداً. والدليل على ذلك هو شهيد المعرة الحيّ، ذاك البطل أحمد الحصري الذي قاوم الغزاة بمفرده، وأخر احتلال المعرة لساعات عديدة، ليخلّد بذلك بطولته في ذاكرة الثورة".

 

وأكد الجربان أنه "اليوم، نجدد عهدنا لشهدائنا الذين أقسمنا أن نكمل طريقهم حتى تحقيق النصر، ونؤكد أننا مستمرون في هذا الدرب حتى نحقق حلمهم في بناء سورية التي كانوا يطمحون إليها... سورية الحرة، التي لا مكان فيها للظلم والاستبداد. ذلك الحلم الذي راودنا قبل 14 عاماً أصبح اليوم حقيقة نعيشها، رغم كل الآلام والجراح". وأشار إلى أن "مشاعري اليوم خليطٌ من الفرح والألم والحزن والغصّة. ربما لأنني لا أزال بعيداً عن المعرة، كحال كثيرٍ من أهلها الذين هُجّروا قسراً نتيجة الدمار الذي طاول منازلنا وأحياءنا. وربما لأنني كنت أحلم أن أعيش هذه اللحظة إلى جانب أصدقائي وزملائي الذين اضطروا إلى الهجرة خارج سورية قبل سنوات، أو لأنني تمنيت لو أنني أحتفل بهذه الذكرى إلى جانب معتقلينا وشهدائنا الذين فارقونا وهم يحلمون بهذه اللحظة".

 

وتابع: "لكنني بالرغم من كل ذلك، أشعر بفخرٍ عظيم. أفخر بنفسي لأنني ابن هذه الأرض العظيمة، وأفخر أكثر لأنني كنت ذلك الطفل الصغير حين بدأت الثورة، ثم أصبحت من أبنائها الذين حملوا لواءها، وأفخر اليوم أنني والدٌ لثلاثة أطفال تربّوا على مبادئ الثورة وأخلاقها. أشعر بفخرٍ لا يوصف بكل زميلٍ لي من أبناء الثورة، أولئك الذين عايشوا أفظع حقبةٍ عرفتها البشرية، حقبة الأسد، وكنا معاً رفاق دربٍ في مواجهتها حتى كسرناها وأسقطناها إلى الأبد".

من جانبه، أوضح عبد اللطيف الرحوم، وهو أحد منظمي المظاهرات في مدينة معرة النعمان، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن هذا "تجمع لمجموعة من شباب المعرة، الذين أصروا على أن تمر هذه الذكرى دون أن تُنسى، في خطوة تعكس وفاءهم لمدينتهم التي كانت رمزاً للثورة ومركزاً للفعاليات الثورية في سورية. ورغم الظروف الصعبة، أبت هذه المجموعة إلا أن تعيد الحياة إلى شوارع المدينة ولو ليوم واحد، لتذكير الجميع بأن معرة النعمان كانت وستظل رمزاً للصمود والحرية". وأضاف الرحوم: "كانت المدينة، منذ الأيام الأولى للثورة، ملتقى لأبناء الريف من شرقها وغربها، الذين كانوا يتوافدون إليها لتأكيد مطالبهم بالحرية وإسقاط النظام. واليوم، ورغم الخراب الذي خلفته قوات الأسد، يظل شباب المعرة أوفياء لمدينتهم، حاملين شعلة الثورة ومطالبها العادلة".

 

وأشار الرحوم إلى أن "الاحتفالية تخللتها هتافات وشعارات تعبر عن التمسك بمبادئ الثورة، وتؤكد أهمية الوحدة والتكاتف لإعادة بناء سورية الحرة. كما رفع المشاركون لافتات تذكّر بالتضحيات التي قدمها أبناء المدينة والريف المحيط بها، وتدعو إلى استمرار النضال لتحقيق أهداف الثورة". وبيّن الرحوم أن "هذه الفعالية ليست مجرد احتفال بذكرى، بل هي رسالة واضحة بأن الأمل لا يزال حياً في قلوب السوريين، وأن معرة النعمان، رغم كل ما مرت به، ستظل رمزاً للصمود والإصرار على تحقيق الحرية والكرامة".