رمضان شهر الإيمان والورع
يطل علينا شهر رمضان الكريم ببشرياته الحاضرة، وفيوضاته الربانية، حيث يأتي بعد شوق وانتظار طويل؛ ليشمر المشمرون ويستعد العابدون ويتأهب الساجدون الراكعون، ويترقب الباذلون، فتهتف القلوب بصوت خاشع ودمع دافق، مع أصوات الملائكة في الملأ الأعلى "يا باغي الخير أقبل و يا باغي الشر أقصر"؛ امتثالًا لما كتبه الله على عباده وما أمرهم بإتيانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ﴾ [البقرة: 183].
إنه موسم الطاعات وميدان العاملين، امتنّ الله به على هذه الأمة الوسط، وجعله نورًا لهداية المستهدين، وأملًا لكل العصاة المذنبين يغترفون منه ما يفيض على قلوبهم وجوارحهم وما يمسح الله به الخطايا ويذهب به عنهم الرجس، إنها أيام المصالحة مع الله والعودة إليه والإنابة له والركون إليه والتضرع على بابه؛ لبلوغ رحمته التي وسعت كل شيء والوصول لجنته التي تزيَّنت للمتقين، وفتحت أبوابها مع أول ليلة من هذا الشهر الكريم، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أبو هريرة رضي الله عنه: "إذا جاءَ رَمَضانُ فُتِّحَتْ أبْوابُ الجَنَّةِ، وغُلِّقَتْ أبْوابُ النَّارِ، وصُفِّدَتِ الشَّياطِينُ" (رواه البخاري ومسلم).
ورمضان ليس شهر عبادة وتبتل وحسب، ولكنه شهر امتثال لكل ما أمر الله به، واجتناب لكا ما نهى عنه، والتزام بما جاء في كتابه المنزل في هذا الشهر الكريم من هدي وتكليف وتشريع ومنهاج شامل؛ ضمِن للبشرية العزة والسعادة والقسط والهدى على بصيرة، يقول تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلاَ إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأُمُورُ﴾ [الشورى: 52].
إنه شهر نقاء السريرة والعلانية، وشهر الطهارة الظاهرة والباطنة، وشهر النوايا الصادقة، فاختص سبحانه نفسه بجزاء الصائمين؛ لعلمه بما يسرون وما يعلنون وما يخفون وما يظهرون (الصوم لي وأنا أجزي به)؛ لذا فهو يصنع الرجال ويربي الدعاة، يقول الأستاذ عمر التلمساني رحمه الله لإخوانه مهنئًا لهم بشهر الصيام: طريقكم وعر، وبحركم غمر، والصيام لكم جُنة وعتاد، ولا يقوى عليها إلا القوي الأمين، الحذر اليقظ، الجاد، الصامد، المضحي، الذي يذوب فَرَقًا؛ خشية أن يطلع الله من دخيلته على ما لا يحبه ولا يرضاه لعباده المقربين.. أصحاب الروح والريحان وجنة النعيم، واحفظ لسانك؛ فلا يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائدُ ألسنتهم، لا تغتب الناس وصُن طرفك عن نظرات الوسواس الخناس، ألم تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من صام فليصم سمعه وبصره»؛ فليكن كلامك دعوة إلى الله، وليكن سمعك إصغاء لذكر الله، تجتمع عليك عزة الدنيا مع سعادة الآخرة.
بشارات رمضان
وكما كان لرمضان نفحات على قلوب العابدين وأرواح السالكين إلى الله؛ فله نفحاته وبشرياته على عموم الأمة كلها، حيث تحققت فيه الانتصارات وتتابعت فيه البشريات وتعاقبت فيه الخيرات، فلم تنقطع على مدار تاريخ الأمة، بداية من غزوة بدر الكبرى في العام الثاني للهجرة، ومرورًا بفتح مكة في العام الثامن للهجرة، ووصولًا إلى فتح الأندلس عام 92 هجريًّا ومعركة عين جالوت عام 685 هجريًّا.
وفى العصر الحديث أيضًا لم تنقطع بشائر شهر رمضان المعظم عن الأمة؛ حيث تجلت في نصر العاشر من رمضان عام 1393 هـ، عندما صدح الجند بالتكبير، وضبط الجيش المصري بوصلته تجاه العدو الحقيقي، وأدرك الجميع أن لا ملجأ من الله إلا إليه، ولا ناصر إلا هو ولا معز إلا إياه؛ فأيد الله عباده بالنصر فلقنوا العدو دروسًا قاسية وكبدوه خسائر مشهودة.
وها هو رمضان يأتي إلينا هذا العام بالبشائر والعطايا الربانية؛ ففي فلسطين الحبيبة يكتب الله عز وجل سطورًا جديدة في تاريخ الأمة بأيدي أبطال المقاومة البواسل، الذين أرغموا عدوهم ومن معه من أهل الباطل أن يخضعوا لشروطهم ويستجيبوا لمطالبهم، ويعجزوا عن إطلاق أسراهم من خلال حرب ضروس لم تؤت أكُلها ولم تحقق لهم ما أرادوا.
وفي سوريا عادت الروح وعمت الفرحة بزوال الطاغية وسقوط حكم المستبدين وزوال ملكهم، وتمكين أبناء الشعب بعدما قدموا ما استطاعوا من تضحيات بكل غال ونفيس لنيل حريتهم، وإسقاط المتجبرين عن عروشهم، وعلى مرمى البصر تأتي البشائر من السودان الشقيق حيث تتراجع مخططات التقسيم وتنزوي محاولات التفتيت، وتنكسر شوكة المتآمرين، ويتأهب أهل السودان للعودة إلى ديارهم وبلادهم سالمين غانمين.
إنها بشريات رمضان التي نسأل الله أن تعم بلاد المسلمين أمنًا وأمانًا وسلمًا وسلامًا، ونصرًا لكل مظلوم، وفرجًا لكل مكلوم، وفكاكًا لكل أسير، وأملًا في عودة مصر لشعبها، وقد تخلصت من الطغيان وانتصرت على البغاة، وانطلقت حيث أرادها الله رائدة للأمة كما كانت.
المقاومة درع للأمة كلها
وفي فلسطين الحبيبة يأتي شهر رمضان هذا العام على أهل غزة بعد أكثر من خمسة عشر شهرًا من العدوان السافر والإبادة الجماعية، فصبروا على ما أوذوا، وما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا، وما تنازلوا عن أرضهم أو تخلوا عن قضيتهم، بل التفوا حول مقاومتهم، وما زادهم العدوان إلا تمسكًا بقضيتهم، وإدراكًا لحجم التحديات التي تواجههم والمؤامرات التي تُحاك لهم.
لقد كانت الحاضنة الشعبية للمقاومة هي درعها الواقي وسياجها والمتين، وسوارها الذي يحيط بها من كل جانب، فصارت أقوى شكيمةً وأكثرَ تماسكًا، بل كانت ومازالت تمدها كل يوم بأفواج المجاهدين الذين ينضمون إلى صفوفها وينخرطون في بنيانها.
لقد وقفت الحاضنة الشعبية للمقاومة حجر عثرة أمام محاولات التهجير البائسة التي بدأت إرهاصاتها منذ خمسينات القرن الماضي، واستمرت حتى يومنا هذا، تتغير أسماؤها وتتعدد صفاتها وتتنوع أشكالها، ولكنها تظل بالأهداف نفسها التي أدركها الشعب الفلسطيني وتصدى لها.
إن محاولات التهجير لم تقتصر على ما طرحه الرئيس الأمريكي ترامب أو ما تكلم عنه نتنياهو، ولكنها صدرت سرًّا وعلانية ممن ينتسبون لأمتنا ويتسمَّوْن بأسمائنا ويتكلمون بألسنتنا، ففضحت ما في قلوبهم بفلتات لسانهم ونظرات عيونهم وسيما وجوههم {وَلَوْ نَشَآءُ لَأَرَيْنَٰكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَٰهُمْ ۚ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ ٱلْقَوْلِ ۚ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَٰلَكُمْ} [محمد: 30].
إن الشعب الفلسطيني، بل والأمة الإسلامية، باتت على يقين كامل وعلم تام بما يُحاك لها من القريب والبعيد، ممن يسعى لإبعاد سلاح المقاومة والتخلص منه، والقضاء على ما بقي من عز الأمة ومجدها، ولكن هيهات لما يقولون وما يدبّرون! فلن ينجح سعيهم ولن يفلح قصدهم وسيبطل الله أعمالهم.
إننا نؤكد وبشكل واضح لا لبس فيه أن الأمة كلها، وفي القلب منها جماعة "الإخوان المسلمون"، ستتصدى لمحاولات تصفية القضية الفلسطينية التي تعد قضية الأمة المركزية، ولن تسمح لأي جهود متآمرة أن تجهض المقاومة أو تتخلص منها أو تهمِّش وجودها، بما يعد الخط الأحمر الذي ترسمه الشعوب، ولن تملك الحكومات أن تتخطاه أو تتعداه.
بريق الأمل يحتاج العمل
وتبقى أمام الأمة - رغم البشريات –تحديات جسام وأزمات عظام مازالت تهدد وجودها، وتبدد ثرواتها وتستنفد طاقاتها، حيث تمكن منها أعداؤها وأمعنوا في قهرها وإذلالها؛ بأيديهم تارة وبأيدي وكلائهم تارة أخرى.
تتجلى مظاهر خضوع البلدان العربية لأهواء أعدائها وهوانها على نفسها وعدوها في انتهاكات واسعة لحقوق العرب والمسلمين في أوطانهم وخارجها، واستباحة الكيان الصهيوني لسيادة الدول المجاورة لفلسطين المحتلة بالتحليق اليومي للطيران في مناطق السيادة، بل واحتلال المناطق العازلة في خط الهدنة بين العدو وسوريا، وكذلك بينه وبين كل من لبنان والأردن ومصر، ناهيك بإغراق البلدان المجاورة بالعملاء والشركات الوهمية التي تسرق الأموال، وتشيع الفساد والإلحاد، وتشجع النعرات الطائفية والمناطقية والعرقية بلسانها الصريح أو بأبواقها المبثوثة في كل الدول العربية، وصارت دولة الاحتلال المستكبرة العنصرية تفرض سطوتها، وتهدد قادة الدول وتسخر منهم، وتتدخل في شؤون الدول العربية في التعليم والإعلام وخطب المساجد.
إن الأمة اليوم تخوض معركة كبرى تتجاوز في حدودها البقعةَ المباركةَ في فلسطين المحتلة، وتعم أقطارها وتتسع على كافة جغرافيتها، بما يدفعها لأن تخوض معركة الحرية وامتلاك الإرادة وحماية القيم والدفاع عن المقدسات، وهو ما يستوجب عليها أن تستلهم من رمضان خارطة الطريق الصحيح؛ فتأخذ منه العبرة في سبيل الوصول لغاياتها وتحقيق أهدافها، والتي تبدأ بخطوات على مستوى الفرد والجماعة والأمة قاطبة، وهي خطوات لازمة؛ قوامها:
- الإيمان بالله تعالى صانع المعجزات؛ فأي قوة مهما بلغت لا يمكنها أن تهزم أمة عميقة الإيمان بالله، تحسن التوكل عليه، وتطلب رضاه في رفض الظلم ومقارعة الفساد، وكشف الباطل، والجهر بالحق، وبذل الطاقة والوسع، والرباط الدائم في سبيل الله؛ قولًا وكتابة وفعلًا وعطاءً ودعوة.
- الثقة بالذات، وهي ثقة تنبثق من الإيمان بالله، وبقدر ما يتمكن الإيمان في قلوب المؤمنين؛ تكون الثقة في النفس والقدرة على الفعل وإحداث التغيير للأفضل، والتقدم كل يوم خطوة للأمام في كل مجال.
- الوعي" والقدرة على القراءة الصحيحة للواقع؛ وذلك بعدم الانخداع بالدعايات الكاذبة، والأكاذيب المضلِّلة والروايات الواهنة، وتحري الحق، والاستمساك بالعدل والموضوعية، وتجنب المسارعة في الباطل، والفجور في الخصومة، والاحتماء بالقيم والتزام التقوى؛ والتقوى التي نكتسبها في رمضان هي بداية الطريق للتمييز بين الحقيقة والخديعة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا..} [الأنفال: 29].
- السعي بعد "الوعي"؛ وإلا فما قيمة إيمان لا يدفع صاحبه إلى العمل؟! والعمل لإصلاح الدنيا هو عمل للآخرة، والمؤمن الذي يطلب وجه الله والدار الآخرة عليه أن يسعى لإقامة القسط والعدل، ويقول كلمة الحق، ويذكِّر بالله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألَا لا يَمنَعَنَّ أحَدَكم رَهْبةُ النَّاسِ أنْ يقولَ بحَقٍّ إذا رَآهُ أو شَهِدَه؛ فإنَّه لا يُقرِّبُ من أجَلٍ، ولا يُباعِدُ من رِزْقٍ؛ أنْ يقولَ بحَقٍّ أو يُذكِّرَ بعَظيمٍ" (رواه أحمد في مسنده).
- ثم الاستعداد للصبر والتضحية؛ فالجنة التي نطلبها بعمل الصالحات تحتاج منا إلى الصبر على الطاعة، والتضحية بالراحة لأجل النعيم المقيم، وكذلك إصلاح الحياة، وتغيير الواقع من الضعف إلى القوة، ومن المهانة إلى العزة، ومن التبعية إلى استقلال الإرادة، كل ذلك لا يمكن أن يتحقق بدون ثمن، وثمنه: الصبر على المشاق، والتضحية في سبيل الغاية.
إنها سُبُل طريقٍ ناجزة يضعها رمضان بين أيدينا، ونسأل الله أن يوفق أمتنا للعمل بها والسعي لتحقيقها والصبر عليها، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200].
رسوخ دعوتنا الربانية
دعوتنا دعوة ربانية راسخة تمتد في الزمان وتنتشر في المكان، وتتناقل عبر الأجيال يحملها كل جيل عن سلفه، فكل جيل يسلم الراية للجيل الذي يليه، والرابط بين هذه الأجيال هو الثوابت والأصول التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان ولا العوائد والأعراف، فلكل شيء أصل، وحين تبقى الأصول تتواصل الأجيال وتبقى الدعوات.
وبعد أن تم تدشين مشروع رسوخ؛ سيتم البدء بتنفيذ برامج المشروع والتي تتناول الثوابت من حيث المفهوم والتأصيل، الخصائص والثمرات، مظاهر التحقق وصور الانحراف، التجارب والتطبيقات العملية، القضايا الرئيسية للمرحلة الحالية. وتتميز البرامج بتنوع الأساليب والوسائل، وممارسات التطبيق، ومعالجات الواقع بما يسهم في ضمانة الحفاظ عليها، وسلامة الممارسة والتطبيق، وتواصل الأجيال. نسأل الله أن يرزقنا التوفيق والسداد، وأن نستمسك بها فهمًا وسلوكًا وممارسة؛ حسبةً لله تعالى ووفاءً لبيعتنا.
واللهُ أكبرُ وللهِ الحمد
أ. د. محمود حسين
القائم بأعمال فضيلة المرشد العام لجماعة " الإخوان المسلمون "
الجمعة 29 شعبان 1446 هجرية - الموافق 28 فبراير 2025م