بقلم: د. علي محمد الصلابي

الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

إن الصبر هو أساس كل خُلقٍ جميل، ودافع التنزه عن كلِّ خُلُقٍ رذيل، وهو حبس النفس على ما تكره، وعلى خلاف مرادها، طلباً لرضا الله وثوابه، وإن الصيام امتناع عن الأكل والشرب وسائر المفطرات والشهوات، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فالصائم بهذه الحالة يمتنع عن ملذاته وشهواته ويقهر نفسه ويكبح نزواته، فهو بذلك يصبر ويصابر على هذا الامتناع ويكابد مصارعة شهواته ونزواته، فالنفس بطبيعتها ميالة إلى ما تشتهيه وتهواه، فمنعها عن مطالبها صعب وشاق، ولكن العبد إذا تحلى بالصبر المطلوب وبالتقوى اللازمة واستطاع قهرها والتغلب عليها أفلح ونجا، وعاش لذة الإيمان. ومن هنا كانت فضيلة الصبر هي أساس الصيام وجوهره.

فرمضان شهر الصبر على الأوامر والطاعات، الصبر على الصيام والقيام والذكر، والعمل باستمرار على تزكية وإصلاح النفس، وإن المداومة على الطاعة بمختلف أشكالها يستلزم الصبر، ومنها المداومة على صلاة التراويح والتهجد والمناجاة، فرمضان مدرسة عظيمة في الصبر، يستلهم منه العباد كثيراً من العبر والدروس النافعة التي تربي النفوس وتقوِّمها في شهرها هذا وبقية عمرها، ولذلك وصف النبي الكريم ﷺ شهر رمضان بشهر الصبر، فقد روى الإمام النسائي من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) أن النبي ﷺ قال: ((شهرُ الصبرِ ، وثلاثةُ أيامٍ من كلِّ شهرٍ ، صومُ الدهرِ)).

فالصبر هو أول الفضائل والعبادات التي يعلمها هذا الشهر العظيم للمسلم، إذ يوطن الصائم نفسه على اجتناب ما يحب ويرغب حتى يصبح الصبر لديه ملكةً وصفة ملازمة، وقد أمر الله تعالى بالصبر وأثنى على الصابرين، وأخبر أن لهم المنازل العالية والكرامات الغالية في آيات كثيرة، قال تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ [البقرة: 45]. وبشر الله تعالى الصابرين بأنهم يوفون أجورهم بغير حساب قال تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۗ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ ۗ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10].

وإن للصبر ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله، وصبر عن محارم الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة، وتجتمع هذه الثلاثة كلها في الصوم، فإن فيه صبراً على طاعة الله بالمداومة والإكثار من الصلاة وتلاوة القرآن، وصبراً عما حرم الله على الصائم من الشهوات، وصبراً على ما يحصل للصائم نتيجة ذلك من ألم الجوع والعطش، وضعف النفس والبدن.

والصوم لذلك يضاعَفُ أجره مضاعفةً خاصةً، ذلك أن الله - عز وجل - يتولى جزاء الصائمين، فقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة (رضي الله عنه) عن النبي ﷺ قال: ((قالَ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ له، إلَّا الصِّيَامَ؛ فإنَّه لي، وأَنَا أجْزِي به، والصِّيَامُ جُنَّةٌ، وإذَا كانَ يَوْمُ صَوْمِ أحَدِكُمْ فلا يَرْفُثْ ولَا يَصْخَبْ، فإنْ سَابَّهُ أحَدٌ أوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ. والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِن رِيحِ المِسْكِ. لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إذَا أفْطَرَ فَرِحَ، وإذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بصَوْمِهِ)).

ولا شك أن طاعة الله تعالى وتنفيذ أوامره تحتاج إلى الصبر عليها؛ لأن منها ما تستثقله النفس وتتهرب منه، بسبب الكسل عن الصلاة، أو بسبب البخل عن الزكاة، أو بسبب ضعف النفس أمام شهواتها، ولذلك فكل عبادة لله سبحانه وتعالى تحتاج إلى عزيمة وصبر.

إن رمضان المبارك يستلزم الصبر ويعلمنا ويعودنا على الصبر، فليكن لنا منه أوفرُ الحظِّ والنصيب، وليكن زاداً لنا فيما نستقبله من أعمارنا، ويذكرنا بنعم الله تعالى الجسيمة وآلائه العديدة التي أنعم بها عليك، فلنجاهد أنفسنا ولنصبرها على طاعة الله.