الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وآله وصحبه، وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد فهذه كلمات موجزة تحدثتُ فيها عن الفتن وخطورتها، وأنواعها، وأسبابها، وكيفية النجاة منها، وهي إشارات عابرة، ورؤوس أقلام على عُجالة كُتِبَتْ، وقد أُلفَتْ فيها مؤلفات عدة ينبغي الرجوع إليها للإفادة منها لأهمية هذا الموضوع الكبيرة.
محتويات
١ تعريف الفتنة وحتمية حصولها
٢ أنواع الفتن
٣ خطورة الفتن
٤ بؤرة الفتن
٥ الأسباب الموقعة في الفتن
٦ المخرج من الفتن
٧ المراجع
تعريف الفتنة وحتمية حصولها
الفتنة
الفتنة في الأصل : الابتلاء والاختبار والشدة قال تعالى : >> أَحَسِبَ الناسُ أن يُتركوا أن يقولوا آمنَّا وهم لايُفتنون << (العنكبوت-2) قال السُدِّي ومجاهد: أي لايُبْتلوْن في أموالهم وأنفسهم بالقتل والتعذيب، وقال الزجَّاج: المعنى أحسبوا أن نقنع منهم بأن يقولوا إنا مؤمنون فقط ولايمُتحنون بما تتبين به حقيقة إيمانهم.
فبينت لنا هذه الآية أن كل الناس من أهل الإيمان لابد أن يُفتنوا كل بحسبه، فدعوى الإيمان بلا اختبار ولا امتحان ولا شدة لاتكفي، بل لابد أن يختبرهم الله تعالى حتى يتبين المخلص من المنافق، والصادق من الكاذب، فالآية مَسُوقَة لإنكار ذلك الحسبان، (أي حسبان عدم الفتنة) واستبعاده، وبيان أنه لابد من الإمتحان بأنواع التكاليف وغيرها، ومن أدلة ذلك قوله تعالى: >> ما كان الله ليذرَ المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يمَيزَ الخبيثَ من الطيبِ << (آل عمران-179).
وقال صلى الله عليه وسلم "أشدُ الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زِيدَ له في البلاء" (رواه أحمد والترمذي) وقال تعالى محذراً نبيه صلى الله عليه وسلم : >> ..واحذرهم أن يفتِنُوك..الآية << (المائدة-49)، وقال أيضاً: >> وإن كادوا ليفتِنُونَكَ..الآية << (الإسراء-73) أي يوقعونك في بلية وشدة في صرفهم إياك عما أوحي إليك. فهذا الرسول { تعرض للفتن بأنواعها، والمشاق بألوانها، لكن الله تعالى كان له معيناً ونصيراً فعصمه منها، فنسأل الله تعالى أن يرحم ضعف أحوالنا.
أنواع الفتن
تنقسم الفتن إلى نوعين، فتنة عامة وفتنة خاصة، فالفتنة العامة هي التي تصيب الأمة بمجموعها ومن أمثلتها قديماً وحديثاً، مما وقع ومما لم يقع، مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه- ظهور الخوارج- فتنة القول بخلق القرآن- ظهور مدعي النبوة- قبض العلم ورفعه ونزول الجهل وكثرته- ظهور المعازف واستحلالها وكثرة شرب الخمر- كثرة الزلازل- ظهور الكاسيات العاريات- فتنة الدجال- كثرة القتل... الخ مما يصيب الأمة بعامة.
ومن أمثلة النوع الثاني أعني الفتنة الخاصة :
فتنة النار- فتنة القبر- فتنة الفقر-فتنة الغنى- فتنة الأهل والولد- فتنة النساء... الخ مما يصيب المرء خاصة أو يصيبه هو وأسرته وأقاربه.
خطورة الفتن
للفتن خطر جسيم، وهول عظيم، نسأل الله تعالى المعافاة منها، ولذلك حذر منها الرسول { في غير ما حديث، لأنه { إنما بعث بشيراً ونذيراً فقال عليه الصلاة والسلام "يكون بين يدي الساعة فتن كقطع الليل المظلم، يُصبح الرجل مؤمناً ويمُسي كافراً، ويمُسي مؤمناً ويُصبح كافراً يَبيع أقوامٌ دينَهم بعرضٍ من الدنيا" (رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح).
فتبين لنا من هذا الحديث بأن أعظم خطر للفتن وشدتها هي إخراج المسلم عن دينه، وهذا هو البلاء المستطير، والشر الكبير، ولاحول ولا قوة إلا بالله.
ومما يبُيِّن لنا ثقل الفتن وشدتها على المؤمنين قوله {:"لاتقوم الساعة، حتى يمر الرجل بقبر الرجل، فيقول:
ياليتني كنتُ مكانه" (رواه الشيخان). وفي رواية "ليتني كنتُ مكان صاحب هذا القبر وليس به الدَّين إلا البلاء"فهذا في الفتن العامة، إلا أن الفتن الخاصة قد توقع المرء في مثل هذا المصير المرير، فكم سمعنا عن أناس ارتدوا عن دينهم ووقعوا في نواقض الإسلام بسبب سعيهم غير المشروع في الحصول على الكسب والرزق فاستحلوا الربا مثلاً، أو دعوا غير الله تعالى فأشركوا بذلك عندما التجأوا لغير الله تعالى في الشدائد طالبين المعونة والمدد من المقبورين أو الأولياء والصالحين، أو خافوا من المخلوقين مثل خوفهم من الله تعالى أو أعظم أن يصيبوهم بضر وشر، فقربوا لهم القرابين وغيرها من العبادات التي لايجوز أن تُصرف إلا للواحد القهار الذي لا معبود بحقٍ إلا هو سبحانه وتعالى.
وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى أن ظهور الشرك في هذه الأمة مما تنبأ به الرسول { وأخبر به فقال { : "إذا وضع السيف في أمتي، لم يرفع عنها إلى يوم القيامة ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان" (رواه الترمذي وقال: حسن صحيح)، ومظاهر الشرك كثيرة، فليست محصورة في دعاء غير الله أو عبادة الأحجار والأشجار والقبور، بل تتعدى ذلك إلى اتخاذ الطواغيت أنداداً مع الله تعالى، يشرعون للناس من عند أنفسهم، ويلزمون الناس بالتحاكم إلى شريعتهم، فينصبون آلهتهم آلهة مع الله تعالى، فالله المستعان.
بؤرة الفتن
أخبرنا الرسول { بالجهة التي تهب منها ريح الفتن على الديار الإسلامية، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله { :"الفتنة ها هنا من حيث يطلع قرن الشيطان" (رواه الشيخان) وقال {: "اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا قال يارسول الله : وفي نجدنا! فأظنه قالها في الثالثة: هناك الزلازل والفتن وبها يطلع قرن الشيطان" (البخاري عن ابن عمر أيضاً).
وأصل النجد : ما ارتفع من الأرض، قال الخطابي: نجد من جهة المشرق، ومن كان بالمدينة كان نجده بادية العراق ونواحيها، وهي مشرق أهل المدينة، قال د. عمر الأشقر: ولا شك أن العراق في جهة المشرق، وأنها تعد بالنسبة للمدينة نجد، وهذا ما فقهه سالم بن عبدالله بن عمر، فعندما كان أهل العراق يرتكبون العـظائم ويسألون عن توافه الأمور. قال لهم سالم: يا أهل العراق ما أَسْأَلََكم عن الصغيرة (ما أكثر ما تسألون) وأَرْكَبَكُم للكبيرة، سمعت أبي يقول سمعت رسول الله { يقول: "إن الفتنة تجيء من هاهنا ـ أومأ بيده نحو المشرق ـ من حيث يطلع قرن الشيطان"(رواه مسلم).
ومن استقرأ التاريخ علم أن الفتن كانت تهب على الأمة الإسلامية من جهة المشرق، فمنها ثارت الفتنة التي أدت إلى مقتل عثمان رضي الله عنه، ومنها خرجت فرقة الحرورية المارقة (الخوارج)، وبقيت ريح الخوارج تعصف بالأمة في العهد الأموي، ومنها خرجت ثورة الزنج (عبيد أهل البصرة)، ومنها خرجت حركة القرامطة عام 278، ومن الشرق عصفت ريح التتار ويخرج الدجَّال من المشرق من نواحي خُراسان كما أخبر بذلك المعصوم (ص) .
الأسباب الموقعة في الفتن
1ـ قلة العلم وكثرة الجهل.
2ـ انتهاك الحرمات وارتكاب الذنوب والمعاصي.
ودليل ذلك قوله { : "إن بين الساعة أياماً ينزل فيها الجهل ويرفع العلم...ويكثر الزنا، ويكثر شرب الخمر.."(رواه الشيخان) وهذا لايحتاج إلى بيان، لأن العلم هو الذي يُبصِّر المرء ويهديه، ويسيره ويرقيه، فيُقْبِل على الحق ويُعْرِض عن الجهل والشر، فإذا قلَّ العلم انطمست البصائر فتهاوى الناس في الفتن، أما انتهاك الحرمات فإنه من أعظم أسباب سخط الله وإعراضه عن العبد، وبالتالي ترك معونته ونصره وتوفيقه، فلا يبالي به الله في أي وادٍ هَلَكَ. قال تعالى: >> ..كذلك نَبْلُوهم بما كانوا يَفْسُقُون << (الأعراف-163)، ولذلك فقد كان حذيفة بن اليمان رضي الله عنه حريصاً على التعلم والسؤال عن الفتن لئلا يقع فيها، فقال رضي الله عنه: "كانوا يسألون رسول الله { عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني"(رواه البخاري).
3ـ عدم الدعاء بسؤال الله العصمة من الفتن :
وهذا من قلة فقه المرء، فلقد كان الرسول { وهو المعصوم، يستعيذ بالله من الفتن على اختلاف أنواعها. فقال { : "اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين...وإذا أردت فتنةَ قومٍ فتوفني غير مفتون.."(رواه الترمذي وحسنه) ومن دعاء أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام: >> ربنا لاتجعلنا فتنةً للذين كفروا..الآية << (الممتحنة-5).
فالواجب على العبد أن يكثر الدعاء عموماً، بأن يعيذه الله من مضلات الفتن خصوصاً، فإنه تعالى ما ألهم عبداً الدعاء وهو يريد أن يهلكه.
المخرج من الفتن
بين الله تعالى لنا في كتابه، وأوضح لنا رسوله { المخرج من الفتن والبلايا، وكيفية الخلاص منها. فمن التوفيق أن يعرف المرء ذلك لئلا يهلك مع الهالكين، فمن وسائل الخلاص والمخرج من الفتن ما يلي:
1ـ الاعتصام والتمسك بالكتاب والسنة قال تعالى : >> واعتصموا بحبل الله جميعاً ولاتفرقوا..الآية << (آل عمران-103) والاعتصام: التمسك بالشيء وعدم مفارقته، ولايتأتى ذلك إلا بفهم نصوص الوحيين، والحرص على التفقه في الدين، ومعرفة الحلال والحرام، وتأمل أحوال الغابرين وسنن الله في ابتلائهم.
2ـ لزوم جماعة المسلمين وإمامهم:
وهذه من وصايا الرسول { لحذيفة بن اليمان رضي الله عنه، فإنه سأل عن بعض الشرور وأهلها فقال له {: "دعاة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها، قلت: يارسول الله صفهم لنا، قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال:تلزم جماعة المسلمين وإمامهم"(رواه البخاري).
3ـ الاعتزال والفرار من الفتن إن لم يكن جماعة مسلمة ولاإمام:
ويتبين ذلك من تتمة الحديث السابق فقد قال حذيفة: "فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال {: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك".
4ـ معرفة الشر وأهله:ودليله حديث حذيفة السابق.
وختاماً :
نسأل الله تعالى أن يعيذنا من فتنة المحيا والممات، ومن سائر مضلات الفتن، وأن يعافينا في الدنيا والآخرة، وأن يحفظنا بالإسلام قائمين، وقاعدين، وراقدين، وألا يشمت بنا الأعداء ولا الحاسدين، وأن يجعل عاقبة كل قضاء قضاه لنا خيراً ، إنه سميع مجيب قريب، وصلى الله على محمد.
المراجع
1ـ القرآن الكريم.
2ـ السنة النبوية.
3ـ توفيق الرحمن في دروس القرآن للشيخ - فيصل آل مبارك.
4ـ فتح القدير للعلامة الشوكاني.
5ـ المفردات للراغب الأصفهاني.
6ـ أشراط الساعة للشيخ يوسف الوابل.
7ـ العقيدة في ضوء الكتاب والسنة للشيخ - عمر الأشقر، وغيرها.
8- مجلة الجندي المسلم عدد 92- 10/01/1998