ما زال أهل غزة يعلموننا أسمى معاني الصبر والصمود والثبات، وكثيرا ما يقولون إنه كلما ضاق الأمر عليهم لجئوا إلى القرآن الكريم فتنزل عليهم السكينة وتغشاهم الرحمة، وهكذا دائما كلما واجه الإنسان الابتلاءات التي تواجهه وهو سائر في سبيل الله ازداد فهماً وفقهاً لكثير من الآيات القرآنية التي لم يكن يفهم معناها قبل ذلك، وربما فتح له الكثير من أبواب الفهم والتدبر ومعايشة كتاب الله والانتفاع به وبما فيه من هدى ونور ورحمة وشفاء.
وكما قال الصالحون فإن القرآن لا يُجنى جناه دون فهم معناه وإدراك مرماه، ومعايشة القرآن تذهب الحيرة، وتجلو البصيرة، وتنقي السريرة.
ويقول الشهيد سيد قطب رحمه الله: "تدبر القرآن يزيل الغشاوة، ويفتح النوافذ، ويسكب النور، ويحرك المشاعر، ويستجيش القلوب، ويخلص الضمير، وينشئ حياة للروح تنبض بها وتشرق وتستنير"
إن تلاوة القرآن وتدبره من أسباب انشراح الصدر واطمئنان القلب وصلاح البال، كما قال الله تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلمُؤْمِنيْن) (الإسراء: 82)، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "لا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر، فإنه جامع لجميع منازل السائرين وأحوال العاملين ومقامات العارفين، وهو الذي يورث المحبة والشوق، والخوف والرجاء، والإنابة والتوكل، والرضا والتفويض، والشكر والصبر، وسائر الأحوال التي بها حياة القلب، والقرآن لا يشبع منه العلماء، ولا تفنى عجائبه، ولا تقلع سحائبه، ولا تنقضي آياته، ولا تختلف دلالاته، فهو نور البصائر من عماها، وشفاء الصدور من أدوائها وجواها، وحياة القلوب، ولذة النفوس، ورياض القلوب، وحادي الأرواح إلى بلاد الأفراح".
لا خوف عليهم
فالقرآن الكريم هو كتاب الهدى والنور والرحمة، وقد جاء ليعرف الناس بالله تعالى، ويعرفهم بأن يعبدوه ولا يعبدوا أحدا سواه، وأن يخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله، وبذلك فإن القرآن يحرر الإنسان من كل خوف، وليبعده عن أودية الهموم والأحزان.
فإذا خاف الإنسان على انقطاع الرزق فإن القرآن يزيل هذه المخاوف إذا قرأ الإنسان قول الله تعالى: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) (الذاريات:22- 23)
ومن خاف على أجله ونقصان عمره، نجد أن القرآن يطمئنه بأنه لن ينقص أو يزيد من عمره عندما يعيش مع قول الله تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61)، ومع قوله تعالى: (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المنافقون: 11) ومع قوله تعالى: (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (آل عمران: من الآية154)
والذي يعايش القرآن تتبدد مخاوفه على مستقبل أولاده وذريته وهو يعايش قوله تعالى: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا) (النساء:9) ، ومع قول الله تعالى: (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا) (الكهف:82)
كما يطمئن على مستقبلهم الأخروي إذا ورثهم التقوي حين يعايش قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ * وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) (الطور:21-28)
وهكذا فإن تدبر آيات القرآن الكريم تبدد كل مخاوف الإنسان وتكسبه القوة في مواجهة شدائد الحياة، ويقول شاعر الإسلام محمد إقبال رحمه الله: "إن القرآن الكريم ليس بكتاب فحسب، إنه أكثر من ذلك، إذا دخل في القلب تغير الإنسان، وإذا تغير الإنسان تغير العالم".
وتعليقا على كلمة محمد إقبال يقول الدكتور خالد أبو شادي: "لا بد لك أخي أن تُعطي لهذا الكتاب قدره، وتنظر إليه من اليوم نظرة مختلفة، وتعامله بغير ما اعتدت عليه من قبل، وحين ينير الله بصيرتك ويرفع الغشاوة عن قلبك سترى ما رأى محمد إقبال من أن القرآن مفتاح تغيير العالم بأسره، وحين تُحرَم هذه البصيرة تفقد مصدر قوتك وبوصلة هدايتك".
نماذج من التدبر
وهناك نماذج كثيرة ممن أحيا القرآن قلوبهم، منها ما جاء في صحيح البخاري عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلي الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بسورة الطور، فلما بلغ قوله تعالى (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون؟ أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون) كاد قلبي أن يطير"
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام بآية يرددها حتى الصباح، وهي قول الله تعالى في سورة المائدة: (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم)
وعن ابن أبي ذئب قال: "حدَّثني من شهد عمر بن عبد العزيز وهو أمير المدينة وقرأ عنده رجل (إِذا أُلْقُوْا مِنْهَا مَكَانَاً ضَيِّقَاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبوْرِاً) (الفرقان: 31) فبكى عمر حتى غلبه البكاء وعلاه نشيجه".
وقال عبادة رضي الله عنه: "دخلت على أسماء رضي الله عنها وهي تقرأ قوله تعالى: (فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم)، فوقفت عندها فجعلت تعيدها وتدعو فطال على ذلك فذهبت إلى السوق فقضيت حاجتي ثم رجعت وهي تعيدها وتدعو".
وعن مسروق رضي الله عنه قال: " قال لي رجل من مكة: هذا مقام أخيك تميم الداري، صلى ليلة حتى أصبح أو كاد، يقرأ آية يرددها ويبكي (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا و عملوا الصالحات سواءً محياهم ومماتهم) (الجاثية).
ومن عاش مع القرآن وتدبر آياته حقا وتأثر به قلبه ووجدانه، فإن هذا التأثر يسري إلى جسده في صورة قشعريرة أو دمعة أو سجدة لله تعالى، كما يحكي الشهيد سيد قطب ـ رحمه الله ـ وهو يقص علينا مشاعره عند معايشته لقوله تعالى (أفمن هذا الحديث تعجبون، وتضحكون ولا تبكون* وأنتم سامدون* فاسجدوا لله واعبدوا) يقول: "ثم جاءت الصيحة الأخيرة، واهتز كياني كله أمام التبكيت الرعيب: (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) ( النجم: 59- 61) فلما سمعت (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) كانت الرجفة قد سرت من قلبي حقًا إلى أوصالي، واستحالت رجفة عضلية مادية ذات مظهر مادي لم أملك مقاومته؛ فظل جسمي كله يختلج، ولا أتمالك أن أثبته، ولا أن أكفكف دموعاً لا أملك احتباسها مع الجهد والمحاولة، وأدركت في هذه اللحظة أن حادث السجود صحيح، وأن تعليله قريب؛ إنه كامن في ذلك السلطان العجيب لهذا القرآن، ولهذه الإيقاعات المزلزلة في سياق هذه السورة، لم تكن هذه أول مرة أقرأ فيها سورة النجم أو أسمعها، ولكنها في هذه المرة كان لها هذا الوقع، وكانت مني هذه الاستجابة، وذلك سر القرآن؛ فهناك لحظات خاصة موعودة غير مرقوبة تمس الآية أو السورة فيها موضع الاستجابة، وتقع اللمسة التي تصل القلب بمصدر القوة فيها والتأثير؛ فيكون منها ما يكون".