الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه: {وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت - 69).

        فى الوقت الذي تجتر فيه النفس ذكريات أليمة وتسترجع الذاكرة مشاهد مذبحة رابعة العدوية وأخواتها من المذابح في ربوع مصر، تقفز إلى الذاكرة مذبحتي يوم الرجيع ويوم بئر معونة والتي تحل ذكراها في شهر صفر بالسنة الرابعة من الهجرة، حيث استشهد 70 من الصحابة.

        فمثلما غدر أهل الشرك قديمًا بصحابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من حفظة القرآن الكريم، رأينا يد الغدر الآثمة حديثًا تمتد لتقتل المصلحين في رابعة والنهضة وتقتل المصلين في أحداث الحرس الجمهوري والعريش وغيرها من المذابح ليتأكد لنا أن الدماء الطاهرة الذكية هي ثمن نصر هذه الأمة وتمكين دين الله في اﻷرض.

        والحق أنه كما لم ينل مجرمو الأمس البعيد ما أرادوا من قتل حفاظ القرآن الكريم في عهد النبوة بطمس الدعوة وغمط الحق وبطر الناس وإقصاء المصلحين ..  فكذلك الحال في الأمس القريب في رابعة لم ولن ينالوا ما يريدون من طمس الدعوة وغمط الحق، فطريق القتل والغدر والتعذيب والبطش لم يجدِ نفعًا من قبل ولن يجدي نفعًا اليوم ما دام المؤمنون ماضين في طريق الهدى والحق.

        وفي التاريخ الحديث تطالعنا أيضًا ذكرى ارتقاء الشهيد سيد قطب ورفيقيه عبد الفتاح إسماعيل ويوسف هواش فى 29 أغسطس عام 1966- وكذلك العديد من المصلحين غيرهم- لتؤكد الرسالة نفسها، ألا وهي المنهج المعوج الذي يسير عليه أهل الظلم والبطش والقتل باستهداف المصلحين بالقتل والترويع.  ولكن هيهات هيهات؛ فالنهاية محتومة بإذن الله: {كَتَبَ ٱللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا۠ وَرُسُلِىٓ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ}  (المجادلة - 21)  وتبقى كلمات الأديب الأريب الشهيد سيد قطب تقرع آذان الظالمين وتثبت أقدام المصلحين من بعده وهو يقول: (إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع، حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الروح و كتبت لها الحياة)، ولم يتمكن أهل الغدر من اغتيال أفكاره ومبادئه.

        فهنيئًا لكل من ثبت على درب الحق وتعسًا لكل من سار في طريق الظلم والاستبداد قديمًا وحديثًا، وتحية تقدير وإعزاز للمصابين وأهليهم، وسلامًا على أراوح الشهداء الأبرار في ميادين الحق والكرامة والإباء وتحية واجبة لزوجاتهم الصابرات المحتسبات وأبنائهم وكل أهليهم، وتحية للأحرار الصامدين الثابتين خلف الأسوار (وأهليهم) الذين لا يقبلون الضيم ولا ينزلون على رأي الفسدة ولا يخافون في الله لومة لائم.

 

مجازر في طول البلاد وعرضها

        إن هذه الأحداث الجسام التي وقعت في طول البلاد وعرضها قبل عشر سنوات وفي كل محافظات مصر ستظل شاهدة بأن الشعب المصري قدم تضحيات غالية للحفاظ على حلم الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، وهتفت حناجرهم بهتاف الحرية محذرين من مغبة التفريط في مكتسبات ثورة يناير المجيدة، وأعلنوا في كل ميدان بضرورة احترام إرادة وأصوات الناخبين والحفاظ على الشرعية الدستورية، مؤكدين أن بديل الديمقراطية لن يكون غير الاستبداد، وأن تأسيس الدولة المدنية الحديثة لا يمكن أن يأتي بين يدي حكم يستولي على السلطة بالقوة.

        إلا أن سلطة الانقلاب أهدرت كل مكتسبات الشعب المصري فعطلت الدستور الذي أقره المصريون بنسبة 63.8% واحتجزت أول رئيس مدني للجمهورية منتخب ديمقراطيًا، وذلك على وقع تضليل إعلامي ممنهج بالَغ في تشويه الرئيس وتشويه دعاة الحرية وحق الشعب في اختيار حكامه فنكلوا بهم في ممارسات قمعية غير مسبوقة خارج إطار القانون.

        لقد وثقت دراسة إنجليزية حديثة ضحايا فض ميدان رابعة العدوية (فقط) ممن سقطوا داخل الميدان وعلى أطرافه فكانوا 1012 ضحية، هذا هو الرقم، لكن ما وراء الأرقام والذي شملته نتائج الدراسة أيضًا هو أن ضحايا المذبحة ينتمون إلى 25 محافظة من المحافظات المصرية وهو ما يبين اتساع نطاق الرافضين للانقلاب، وأن 67.8% منهم ينتمون لفئة الشباب، وأن مجموع فئات الطلاب الجامعيين وخريجي الجامعة والحاصلين على دراسات عليا يساوي حوالي 91% من إجمالي الضحايا وهو يبين كون الضحايا من الفئات المتميزة علميًا، وأن عدد الأفراد الذين فقدوا عائلهم بعد الفض حوالي 2300 شخصًا، وأن المحيط الأسري للضحايا بعد إضافة عدد الإخوة وآباء الضحايا وأمهاتهم يقدر بنحو 11600 شخص، ويتسع هذا المحيط ويتضاعف أضعافًا كثيرة عند إضافة دوائر اجتماعية قريبة من الدرجة الثانية حتى الدرجة الرابعة، هذا غير صداقات العمل والجوار، وهو ما يبين حجم الضرر المادي والنفسي الذي لحق المجتمع المصري.

        أوضحت النتائج أيضًا أن الضحايا امتهنوا 139 مهنة مختلفة موزعة بين الفئات العشر بالتصنيف الدولي للمهن وكانت النسبة الأكبر من الضحايا (52%) من فئة- الاختصاصيين- ونسبة 4.9% من فئة- المشرعون وكبار الموظفين والمديرون- فكان منهم 6 من مدراء التربية والتعليم، و4 من مدراء البناء والإنشاءات، و4 من مدراء البيع والتسويق، وثلاثة من مدراء الإدارة والرؤساء التنفيذيون، واثنان من مدراء التعدين، وواحد من مدراء الخدمات الصحية، ومدير مصنع، وواحد من مدراء خدمات الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، وكل هذا يكشف حجم الجريمة وحجم الخسائر في الأرواح وحجم الفقد في المجتمع وآثار ذلك على آلاف الأسر المصرية.  

 

على حافة الغضب

        واليوم وبعد عشر سنوات من تلك الأحداث المؤلمة التي دق فيها المعتصمون في ميادين مصر نواقيس الخطر والتحذير من الوقوع في تلك الهاوية، أصبح المصريون على حافة بركان هادر يخفي تحته حالة من الغضب العارم والتي تأخذ كل يوم في التزايد، وذلك في ظل انهيار في منظومة الخدمات في الكهرباء والمياه والصحة والتعليم وانعدام الأمل في تحسن الأوضاع ورغبة جامحة لدى الشباب في الهجرة خارج الأوطان والبحث عن مخرج مما هم فيه، وسط حالة من الانسداد الكامل في حرية التعبير حيث كممت الأصوات وحجبت الصحف والمواقع وتمت السيطرة على ما تبقى من مؤسسات إعلامية، وسدت الأبواب أمام أي مطالبات شعبية وارتفعت معدلات الديون الخارجية والداخلية إلى مستويات غير مسبوقة تعجز الأجيال القادمة عن سدادها فأوصلت البلاد إلى طريق مظلم.

        كل ذلك رغم عشرات المليارات من الدولارات التي أنفقتها جهات إقليمية ودولية داعمة للانقلاب والتي زادت عن 120 مليار دولار بهدف إنجاح الانقلاب  وتحقيق حالة من الرضى الشعبي عن وجوده وبقائه، لكن دون جدوى، بينما سعت ذات الجهات بكل قوة لحصار التجربة الديمقراطية الوليدة وحجبوا عنها كل المعونات بغية إفشالها.

        وعلى أرض الواقع فقد أنفق الانقلاب هذه المليارات التي حصل عليها في بناء قصور رئاسية ومشاريع وهمية بلا دراسة حقيقية بعيدًا عن رقابة الشعب وبعيدًا عن استشارة الخبراء والمختصين، وفي ظل غياب كامل للمشاريع التنموية الحقيقية التي يمكن أن تحقق نموًا اقتصاديًا متوازنًا، وتوفيرًا لفرص العمل وزيادة في معدلات الإنتاج والتصدير.

        واليوم استيقظ الجميع على الحقيقة المرة ولم تعد تنطلي  على الشعب كل محاولات الخداع والوعود المعسولة والتسويفات الكاذبة، وبات الجميع يتطلع إلى ساعة الخلاص ولحظة انكشاف الغمة وانتهاء الكابوس الذي جثم على صدر البلاد، أملًا في غد يتحرر فيه الوطن من الاستبداد وينطلق الجميع لصناعة المستقبل الذي تستحقه مصر في يوم تنتصر فيه إرادة الشعب : {وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا   نَصْرٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ  وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ} (الصف - 13).

 

من أخبار الجماعة

        منذ عدة أيام، وخلال إحدى جلسات المحاكمات لقيادات الجماعة؛ ظهر كل من فضيلة المرشد العام أ.د. محمد بديع، م. خيرت  الشاطر نائب فضيلة المرشد العام، أ. د. محمود عزت نائب فضيلة المرشد العام. وخلال جلسة المحاكمة  اشتكى الأساتذة الثلاثة من المعاملة السيئة التي يتعرضون لها منذ عدة سنوات من العزل الانفرادي  والتضييق وعدم السماح لهم بالتواصل مع بعضهم البعض أو مع غيرهم أو حتى مع محاميهم،  وكذلك عدم حصولهم على أقل الحقوق الإنسانية واﻵدمية من العلاج والطعام والزيارات العائلية الممنوعة عنهم لعدة سنوات. واشتكى الأساتذة من عدم معرفة أخبار أسرهم ومن منهم الحي ومن الميت وأن هذه المعاملة غير الآدمية التي يلقونها  ليس لها مثيل في العالم كله، وطلبوا من المحكمة الحصول على حقوقهم الإنسانية واﻵدمية والسماح لهم بالزيارة العائلية وضرورة علانية جلسات المحاكمة.

        والجماعة إذ تؤكد على بطلان كافة تلك المحاكمات؛ تطالب منظمات حقوق اﻹنسان بالعمل على ضرورة حصول الأساتذة وكافة المعتقلين على حقوقهم الإنسانية بداية من العدالة في المحاكمات وعلانيتها والحصول على اﻷدوية والرعاية الصحية خاصة المرضى وكبار السن والمعاملة الحسنة والمطالبة بحقهم في الزيارات العائلية ومقابلة محاميهم والتحدث إليهم.  كما تطالب الجماعة بالتوقف عن استخدام القضاء في الفتك بالخصوم السياسيين ريثما يخرجون جميعًا- بحول الله- من تلك المحنة سالمين معافين.

والله أكبر ولله الحمد

أ.د. محمود حسين
القائم بأعمال فضيلة المرشد العام 
الأربعاء 29 المحرم 1445 هجرية الموافق 16 أغسطس 2023م


اضغط هنا لتحميل الرسالة PDF