محمد فتحي النادي
يهجر الإنسان وطنه الذي وُلد فيه، وعاش بين ربوعه لأسباب متعددة؛ فقد يتركه لغيره طلبًا للعلم، أو بحثًا عن الرزق، أو نشدانًا للحرية، أو تحقيقًا للأمان، أو فرارًا بالدين.. إلخ.
وهو في هجرته تلك يحمل وطنه في قلبه، ويظل خاطره وفكره معلَّقًا بوطنه رغم ما قاساه فيه، ويحلم باليوم الذي يعود إليه فيه، وقد انتهت المنغصات والدوافع التي عملت على إخراجه من وطنه.
وتزداد وطأة هجرة الأوطان إذا خلَّف بها أسرته التي أنشأها بمحبته، وسقاها من عرقه، وأحاطها برعايته.
فتزداد لوعته بتركه لبلده، وفقده لأصوله من الآباء والأمهات والأعمام والأخوال، وانعدام إخوان الصفا وخلان الوفا، وتحرُّقه لسكنه النفسي وأُنسه الذي كان يجده مع زوجه، وتشوُّفه لضم أولاده تحت جناحه وشمه إياهم، ورؤيتهم يكبرون تحت عينه.
كل هذه آلام يذوقها المهاجر سواء أكانت هجرته طوعية أم قسرية، مؤقتة أم دائمة.
وهو لا يستطيع أن يحمل إليه كل أحبابه من الأهل والخلان إلى بلاد غربته وهجرته، لكنه يحمل إليه ما لا غنى له عنهم، ولا غنى لهم عنه.
إنه يحمل أسرته التي يعتبرها وطنه في غربته.
والمرأة التي تحب زوجها وتؤمن بقضيته وتعينه على تحقيق أهدافه تواجه معه العالم بأسره القريب منه والبعيد.
لا تفرِّط في زوجها وتتركه يواجه حياته الجديدة بمعزل عنها، فكما بدأا حياتهما معًا في وطنهما، فإنها لا تمانع أن تكمل حياتها معه في مهاجَرهما الجديد، ولا تسمع للمخببين، ولا تلين لها قناة إن حاول أهلها أن يمنعوها عن اللحاق بزوجها.
فالزوج لزوجته في الغربة وطن.
والأولاد كي يكونوا أسوياء فإنهم يحتاجون للأبوين معًا لاكتمال عوامل التربية الصحيحة؛ فانفراد أحدهما بالتربية في بيئة غير مواتية وغير صحية مفسد للأولاد مفسدة عظيمة.
لكن إن كانت المرأة هي أول من يتنكر للزوج بعد هجرته، وتمتنع عن اللحاق به، وتحرمه من أولاده، وتحتمي بعصبتها وتنتصر بهم على عصبة زوجها، ولا يكون في عصبتها رجل رشيد يضع الأمور في مواضعها الصحيحة، فإنها تكون قد حكمت على أسرتها بالفساد، وزرعت فيهم الشقاق، وبذرت بذور شر ستجني شوكها وحنظلها في قابل الأيام والسنين.
وقد كانت أم المؤمنين أم سلمة خير مثال للمرأة الصالحة التي وقفت بجوار زوجها وحاربت الكل ولم تستسلم حتى بلغت مأربها والتأم شمل أسرتها.
فقد كان أبو سلمة «أول من هاجر بظعينته إلى أرض الحبشة ثم إلى المدينة»(1)؛ إذ هاجر بها إلى الحبشة، ثم عادا معًا إلى مكة.
فطاله أذى قريش، وعلم بإسلام من أسلم من الأنصار فخرج إلى المدينة مهاجرًا، وكان أول من هاجر إلى المدينة من أصحاب رسول الله ﷺ من المهاجرين من قريش قبل بيعة أصحاب العقبة بسنة.
ويبدو أنه خرج إلى الحبشة بزوجه في غفلة من أهلها، لكنه لما حاول تكرار الأمر ذاته في هجرته للمدينة وقفوا له ومنعوه وفرَّقوا بينهما.
وقد حكى ابن إسحاق قصة هجرته وزوجته وابنه، وما فعله به أهلها، وما وقع عليهم من أذى تحاكى به الناس، ناقلاً ذلك عن أم سلمة التي قالت: «لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل لي بعيره ثم حملني عليه وحمل معي ابني سلمة بن أبي سلمة في حجري، ثم خرج بي يقود بي بعيره، فلما رأته رجال بني المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم قاموا إليه فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتك هذه؟ علام نتركك تسير بها في البلاد؟
قالت: فنزعوا خطام البعير من يده فأخذوني منه.
قالت: وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد، رهط أبي سلمة فقالوا: لا والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا.
قالت: فتجاذبوا بني سلمة بينهم حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبد الأسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة.
قالت: ففرق بيني وبين زوجي وبين ابني.
قالت: فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطح فما أزال أبكي حتى أمسي سنة أو قريبًا منها حتى مر بي رجل من بني عمي -أحد بني المغيرة- فرأى ما بي فرحمني فقال لبني المغيرة: ألا تخرجون هذه المسكينة؛ فرَّقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها.
قالت: فقالوا لي: الحقي بزوجك إن شئت.
قالت: وردَّ بنو عبد الأسد إليَّ عند ذلك ابني.
قالت: فارتحلت بعيري، ثم أخذت ابني فوضعته في حجري، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة.
قالت: وما معي أحد من خلق الله.
قالت: فقلت: أتبلَّغ بمن لقيت حتى أقدم على زوجي، حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة أخا بني عبد الدار فقال لي: إلى أين يا بنت أبي أمية؟
قالت: فقلت: أريد زوجي بالمدينة.
قال: أوما معك أحد؟
قالت: فقلت: لا والله إلا الله وبني هذا.
قال: والله ما لك من مَتْرك، فأخذ بخطام البعير فانطلق معي يهوي بي، فوالله ما صحبت رجلاً من العرب قط أرى أنه كان أكرم منه؛ كان إذا بلغ المنزل أناخ بي، ثم استأخر عني، حتى إذا نزلت استأخر ببعيري، فحط عنه، ثم قيده في الشجرة، ثم تنحى وقال: اركبي، فإذا ركبت واستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه فقاده حتى ينزل بي.
فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء قال: زوجك في هذه القرية – وكان أبو سلمة بها نازلاً- فادخليها على بركة الله، ثم انصرف راجعًا إلى مكة.
قال: فكانت تقول: والله ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة، وما رأيت صاحبًا قط كان أكرم من عثمان بن طلحة»(2).
فهنا أبو سلمة غلبوه على زوجه وابنه فخرج ولم يلو على شيء عندما يكون دينه وإيمانه في كفة والدنيا في كفة.
وأم سلمة فقدت الزوج والولد في لحظة، لكنها لم ترضخ لهم، ولم تُظهر ولو بعض الرضا عن حالها، بل بدا الحزن العميق حتى لانت لها بعض القلوب، فسمحوا لها بضم ولدها إليها، وانطلاقها إلى زوجها، ولم تخف طريقًا ولم تستوحش سبيلاً طالما أنه يؤدي إلى مرضاة الله والاجتماع بالزوج.
فظفرت بدينها وبزوجها وبولدها.
فنموذج أبو سلمة في عصر لن ينقطع، لكن من ستكون كأم سلمة التي ستكون مع زوجها في السراء والضراء، في الوطن والغربة؟
_______________
(1) الإصابة، (4/ 153).
(2) سيرة ابن هشام، (1/ 469-470).