ونحن نستقبل العام الهجري 1445، ونستعيد ذاكرة أحداث الهجرة النبوية وقيمها ودروسها في السيرة النبوية العطرة، علينا أفرادًا وجماعات وأمة إسلامية أن نُجدِّد مبادئ الهجرة المباركة في نفوسنا، ونتأمل في أحداثها ونحقق معنى - الرسول قدوتنا - ونستلهم منها المعاني والدلالات التي تنير طريقنا نحو المستقبل، ونحو التحرر الكامل من العبودية لغير الله في الاعتقاد والتصور، والفكر، والوجدان، والأعمال، والدعاء، والتوكل. 

        فلم تكن  الهجرة النبوية هجرانًا للأوطان، ولا قطيعة للأرحام، ولا تنكُّرًا للنشأة اﻷولى، بل كانت رفضًا للظلم والبغي والعُدوان، وطلبًا للحرية والكرامة، وتمايزًا عن الباطل والكذب والجاهلية، وما كان المهاجرون إلا دعاة خير وإصلاح وفضائل، وما كانت هجرتهم لدنيا ولا غنيمة، بل كانت هجرتهم لله ولرسوله.

        لقد أخرج المشركون المعتدون النَّبيَّ الكريم -صلى الله عليه وسلم- وهو الذي عاش قبل البعثة معروفًا بينهم بالصدق والأمانة ورجاحة العقل، لقد حضر -وهو طفل- اجتماع حِلف الفضول الذي تعاهد فيه أشياخ من قريش على نصرة المظلوم، وظلَّ يُثني على عبدالله بن جدعان الذي دعا لهذا الحلف، ويصف المتحالفين علي الخير بأنهم -أشياخي- أمَّا في شبابه قبل البعثة  فقد وقف يدافع عن مكة بكل ما أوتي من قوة في حرب الفجار التي استهدفت قومه وبلده، وهو ذلك الرجل الأغرُّ الذي كان سببًا في حقن دماء قومه، وحمايتهم من حرب داخلية فيما بينهم، يوم وضع الحجر الأسود في الكعبة؛ فأشار عليهم بمشورة المخلص المشفق، وهو الرجل الذي  كان معروفًا - في مكة قبل البعثة- بأنه يحمل الكَلَّ، ويُقري الضيف، ويُكسب المعدوم، ويُعين على نوائب الدهر، ومع كل هذا لما نادى فيهم بدعوة الحق وإقامة العدل وصلة الرحم، آذوه في نفسه وماله وأهله، وعذَّبوا أصحابه، بل وحبسوهم وقتلوا منهم، وحاصروا كل من رفض الظلم، أو أدان الباطل، أو احتَجَّ على الإفساد حتى لو كان  غير مسلم، وأنفقوا أموالًا طائلة على تشويهه وتشويه دعوته، وتَنفير الناس منه ومن أصحابه.

        الهجرة ليست دروسًا وعبرة مُنقضية في زمانها؛ بل مَعين دائم يتجدد في كشف جوهر دعوة الإسلام، وسنن الأنبياء، فما من نَبيٍّ إلا وأخرجه قومه من وطنه ظلمًا وعدوانًا، وهي سنة في المصلحين والدعاة مع المتجبرين والطغاة.

        وليست الهجرة قصة تاريخية وَعْظية؛ إنما هي منهج إسلامي عملي في رفض الظلم، وإباء الضيم، وعدم الانصياع للباطل، هي انتصار للعقيدة الإسلامية في أسمى آثارها: الإيمان، والحرية، وانعتاق الناس من المظالم.

        لقد هاجر المسلمون رجالًا ونساءً وأطفالًا، هاجر الأقوياء والأغنياء، كما هاجر الضعفاء والفقراء، تجمعهم قضية واحدة وقلوبهم مؤمنة ونفوسهم أبيَّة، وكانت الهجرة نافذة لشرح قضيتهم،  وإعطاء فرصة للناس أن تسمع الحق، وتختار وتقارن بين المفسدين والمصلحين.

        الهجرة لم تكن انصرافًا عن المستضعفين، ولا عن قضايا الأوطان وأوجاعها، فحُب الأوطان فطرة فطرها الله في النفوس، بل كانت سعيًا لنصرة المستضعفين وتحريرهم من المظالم التي تَعوق تقدم الأوطان ونهضتها، وتسحق البشر، وتشُلُّ قدرتهم على التفكير والإبداع، أو تُحولهم إلى فقراء أو لاجئين، يبحثون عن أسباب الحياة.

        ما أشبه الليلة بالبارحة! فبعد غياب الدور الرِّيادي للمسلمين، وتهميش دور الشعوب والقوى الوطنية، وسحقها تَجرَّأ المعتدون، وأسرفوا في العدوان، وأكبر مظهر دالٍ على ذلك ما أقدم عليه معتوه حاقد بحرق المصحف الشريف في السويد باسم القانون والحرية دون مراعاة لملايين المسلمين، بل وتعمَّد -ومن وراءه من قوى عالمية ووسائل إعلام، ومنظمات معادية للإسلام-  إهدار مشاعر المسلمين  والاستهزاء بها، وبغياب الدور الرِّيادي والحضاري للمسلمين في العالم المعاصر خسرت البشرية جمعاء على مستوى المعاملات والأخلاق، وخسرت على مستوى حقوق الإنسان، وأكبر الخسائر خسارة  ميزان العدل والإنصاف.

        وهذه سيدة في أسبانيا تَلفظ أنفاسها من شدة الإرهاق والتَّعب في دولاب عمل وحشي، لا يسمح لزملائها بنجدتها، أو حتى بإلقاء نظرة وداعٍ عليها، بل ويستمرون في أعمالهم مثلهم مثل الآلات الصماء التي يجلسون أمامها، وسيدة أخرى  يدهسها مع أطفالها ضابط متغطرس، ويُكرِّر الدهس عامدًا مُتعمدًا حتى يقتلها، ويُكسِّر عظام الأطفال، في مصر التي فقدت العدالة والكرامة، واستطال فيها الطغاة بحماية السلطة لهم، وتَصاغَر القانون أمام سُلطتهم الغاشمة، هذه الجريمة الوحشية وغيرها -مما تكرر- لم تنجز فيها العدالة على مدار عشر سنوات سوداء مضت قضية إنصاف واحدة من هذا النوع، يكون فيها أرباب السلطة والفساد والاستكبار  في طرف الجريمة والقتل والدهس، وأحد المواطنين في طرف المجني عليهم، يحدث هذا في السجون، والشوارع، والمتاجر، والمصانع، وحتى في المحاكم، وفي المصالح الحكومية ليلًا ونهارًا .

        وهاتان سفينتان: سفينة تحمل 750 إنسانًا من العرب والمسلمين الباحثين عن الحياة، الهاربين من جحيم الفقر والاستبداد، يستغيثون ما يقرب من 13 ساعة، فلا يُقدَّم لهم طوق واحد للنجاة، بل كان التجاهل حال محنتهم وبعد غرقهم، كأنهم ليسوا من جنس البشر،  و بالمقابل سفينة أخرى مجهزة بكل أنواع الأمان الممكنة، فيها عدد قليل لا يتجاوز أصابع اليد -من أثرياء العالم- في رحلة ترفيهية مغامرة، ولكنها تنقطع عن الاتصال فيهُبّ العالم بالطائرات، والسفن، والفرقاطات،  والأقمار الصناعية، ووسائل الإعلام... حياة الإنسان مهمة -غنيًا أو فقيرًا- لكنَّ الكيل بمكيالين يُؤسس للتمييز والعنصرية، وخلق الفجوات في المجتمعات الإنسانية.

        إن الهجرة النَّبوية المباركة أسست للعدالة، والحرية والمساواة، وأحبطت العنصرية، وحاربت التمييز، ولما عاد النَّبي منتصرًا أخذ بيد بلال بن رباح الحبشي؛ ليتقدم مع الرسول على أشياخ قريش لكونه كان أسبق لقبول الحق، والانحياز للعدل والرغبة الصادقة في الحرية، فليس لعربي على أعجمي فضل ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى والعمل الصالح. 

 

تضحيات غالية  

        ومع شهر يوليو تحضُرنا تضحيات غالية قدَّمها الشعب المصري من أجل حريته، واستقلال إرادته، وحفاظه على مكتسباته التي انتزعها في ثورة يناير المجيدة، والتي سمحت بفتح ثغرة في جدار الحكم العسكري المستبد، وتدشين مسار ديمقراطي جديد، استطاع معه الشعب أن  يمارس حقه المشروع في اختيار أول رئيس مدني منتخب في سابقة تاريخية نادرة، فكَّكت القيود عن خيال المصريين وأحلامهم المشروعة، وفتحت لهم أبواب الأمل في المستقبل بعيدًا عن تدوير النظام العقيم وتزوير الانتخابات، وحصول الرؤساء المستبدين على 99.99 % في انتخابات ومهرجانات سلطوية، يغيب عنها الشعب، وتُهدر فيها أصواته وآماله وكرامته وحقوقه المشروعة.

        وما إن وقع الانقلاب العسكري الغادر في يوليو 2013م، حتى استدعى الشعب المصري من تجارب التاريخ ما يدفعه إلى الحفاظ على مكتسباته التي انتزعها،  فخرج بالملايين إلى شوارع مصر من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها؛ يُعلن رفضه الانقلاب على التجربة الديمقراطية الوليدة، ولكنه وُوجِه بآلة عسكرية باطشة،خَلَّفت مئات الشهداء، وآلاف الجرحى وعشرات آلاف المعتقلين، فكانت مذبحة  بين السرايات في 2 يوليو ومذبحة الحرس الجمهوري في 8 يوليو، ومذبحة  رمسيس اﻷولى في 15 يوليو، ومذبحة المنصورة في 20 يوليو، ومذبحتا المنصة والقائد إبراهيم في 27 يوليو ، ثم تتابعت بعدها  المذابح  والمحارق في كل أنحاء مصر حتى وَصلْنا إلى أكبر مذبحة ومحرقة في تاريخ مصر الحديث التي وقعت في ميداني رابعة والنهضة - وكل محافظات مصر- حيث سقط آلاف المصريين، ولم تتوقف آلة البطش والتنكيل، والتعذيب، والإخفاء القسري، وأحكام الإعدام، ودهس المواطنين بسياراتهم في الشوارع، وتعذيبهم في أقسام الشرطة حتى الموت، من كل الفئات والاتجاهات -والأكثر من عامة المواطنين المصريين- ولم تتوقف المآسي حتى يومنا هذا.

        وقد يظن أناس -جراء التضليل الإعلامي-  أنَّ هذه المذابح حدثت بعد مشاركة الإسلاميين في السلطة، ويتناسون أن المذابح قد وقعت من النظام الاستبدادي منذ اليوم الأول للثورة السلمية في 2011 م، في جمعة الغضب في جميع المحافظات، وأكثرها شهرة أثناء الثورة موقعة الجمل، وشارع محمد محمود، ولم ينجُ منها الرياضيون في مذابح بور سعيد والدفاع الجوي، ولا الإخوة الأقباط الذين تعرضوا للترهيب بوسائل مختلفة، بلغت ذروتها  في  مذبحة ماسبيرو.

        كما دخلت مصر منذ ذلك الحين في دوامة من الانهيارات المتتالية على كافة المستويات: السياسية، والأمنية، والعلمية، والتعليمية، والريادية؛ فتقزَّم الدور المصري إلى الحد الأدنى، والْتَهبت حدودها بشدة؛ فتزايدت هجرة الشباب عبر المتوسط، وزادت فواجع المصريين في غرق أبنائهم، وتَلقَّى الأمن القومي المصري ضربات قاسية في ليبيا، والسودان، وتلاعب القوى الدولية والإقليمية في هذا العمق الاستراتيجي لمصر، وتخريبه مما زاد الأحوال الاقتصادية والسياسية ترديًا في ظِل غياب كامل واضمحلال للدور المصري الرسمي والشعبي، والحال في سَدِّ النهضة الأثيوبي أدهى وأمر، وتراجع الدور المساند للقضية الفلسطينية؛ فتزايدت ولم تتوقف الاعتداءات الصهيونية الغاشمة بلا نكير ولا رادعٍ. 

        وعلى المستوى الاقتصادي انحرفت البوصلة بعيدًا عن التنمية الحقيقية، وانطلق سيل المشاريع الوهمية؛ فتفاقم معدل الدين العام ليصل إلى 165 مليار دولار، ولم تجد حكومة الانقلاب من طريق لسداد أقساطها وفوائدها إلا بيع الأصول والمشروعات الكبرى، وبرز الحصاد المُر في إحباط الشباب وغياب الأمل، فلم يَعُد أمامهم من سبيل سوى الخروج من أتون هذه المحرقة، والفِرار من أوطانهم، فركبوا بالمئات والآلاف قوارب الموت في عرض البحار، وهربوا فرادى وجماعات في هجرة غير نظامية إلى المجهول.             

 

سيعود الوطن ملكًا للجميع

        إننا اليوم وبعد عشر سنوات من الانقلاب ورغم كل الجرائم التي ارتُكبت نرقب وعيًا شعبيًّا متزايدًا بالنتائج الكارثية؛ يدفع بالأمل بقرب زوال الانقلاب الغاشم وسيؤذن -بحول الله- بعودة الشعب إلي مكانه الصحيح قائدًا ومعلمًا، يمتلك إرادته وقراره ويختار حكامه، ويرفل في الحرية التي ضحي من أجلها (ويقولون متي هو قل عسي أن يكون قريبًا) (الإسراء: 51).

        إن التَّضحيات العزيزة التي بذلها الشعب المصري في إعلان رفضهم للانقلاب لن تذهب سدى، ولن تَضيع أدراج الرياح، ولكنها ستثمر نجاحًا قريبًا -بإذن الله- في التخلص من هذا الكابوس، لقد أصبحنا اليوم أمام تَغيُّر واضح لدي الرأي العام المصري تجاه المشروع الانقلابي الذي حَظي برعاية إقليمية ودولية، ثم ما لبث أن أصبح عبئًا علي داعميه بعد استنفاده أسباب وجوده، وفشله في إحداث حالة نجاح واحدة تحقق أهداف من دفعوا به إلي سُدَّة الحكم، وهؤلاء سيصحبهم الخذلان وسيعضوا أصابع الندم عندما يملك الشعب مقاليد الحكم من جديد.

        والشواهد على ذلك حاضرة من حولنا حيث تمر علينا خلال هذه الأيام ذكرى نجاح الشعب التركي في دَحر الانقلاب الخامس (15 يوليو/تموز 2016م) بعد أن نجحت الانقلابات الأربعة السابقة في أعوام 1960، 1971، 1980، 1997م، وخَلَّفت وراءها آلاف القتلى، والمعتقلين، والمطاردين إلا أنه  وفي نهاية المطاف نجحت إرادة الشعب التركي في دحر الانقلاب الأخير، بعد سنوات طويلة من التضحيات والمعاناة، وحتمًا ستنجح إرادة الشعب المصري –بحول الله– في التَّخلص من الحكم العسكري، والعودة  إلى المسار الديمقراطي، وسيعود الأمل إلى ملايين الشباب الذين فقدوه، وسيعود الوطن ملكًا لجميع أبنائه، يشاركون في بنائه وصناعة مستقبله،  طالع بيان جماعة الإخوان المسلمين في الذكرى العاشرة لانقلاب يوليو 2013م.

 

من أخبار الجماعة

1- عودًا لمشروع (رسوخ) الذي أطلقت الهيئة اﻹدارية المنتخبة من مجلس الشورى العام للجماعة إشارة البدء فيه، والذي يعمل عليه فريق من المختصين من كوادر الجماعة، فقد تمَّ تحديد عدد من اﻹجراءات في إطار تقييم أداء الجماعة خلال المرحلة الماضية والتطوير المستقبلي، وذلك بمشاركة كافة مستويات الجماعة في الداخل والخارج هي:

أ- تحديد منظومة الأصول والثوابت والأركان والمؤسسية والتوصيف الدقيق لها.

ب- رصد الإشكاليات والشُّبهات والثَّغرات في المستويات المختلفة: القيادة، والرموز، والصف في إطار هذه المنظومة.     

ج- تطوير المعالجة التربوية، واﻹيمانية، والتنظيمية في المستويات المختلفة: القيادة، والرموز، والصف في إطار هذه المنظومة.

د- تدريب وتأهيل الكوادر لترسيخ المنظومة وسَدِّ الثغرات والتَّحصين من الشُّبهات الحالية أو المتوقعة.

ونَهيب بكل إخواننا وأخواتنا في الداخل والخارج بالمشاركة بما لديهم من معلومات ومصادر ومقترحات، ورفعها من خلال اﻷطر التنظيمية؛ لتصل إلى الفريق العامل في هذا المشروع ليكون -رسوخ- مُعبِّرًا بشكل صحيح عن واقع وآمال الجماعة.

 

2- نَظَّمت قناة وطن بالتعاون مع 17 مؤسسة إعلامية مُؤتمرًا دوليًا افتراضيًا، حَضره أكثر من 65 شخصية تُمثِّل أكثر من 25 دولة حول العالم؛ للتَّنديد بجريمة تدنيس المصحف الشريف التي وقعت في السويد، شاهد وقائع المؤتمر تحت شعار - قرآننا عزنا.

والله أكبر ولله الحمد

 

أ.د. محمود حسين
القائم بأعمال فضيلة المرشد العام 
الأحد ٢٨ ذو الحجة ١٤٤٤ هجرية الموافق ١٦ يوليو ٢٠٢٣ م

 

اضغط هنا لتحميل الرسالة PDF