لا يذهبنّ بك الظنّ بعيدًا، فلست بمتحدث عن الواعظين الذين يتشددون في وعظهم ويسرفون في الوعيد والتهديد، ولا عن الخطباء الذين ينحازون دوما إلى الخيارات الفقهية المنافية للتيسير، فيمارسون على الناس التعسير والتنفير؛ فإنّ هؤلاء وأولئك لا ينطلقون من غلظة وجفوة، وإنّما من جهل وغشم وجلافة، أمّا الوعاظ الغلاظ فهؤلاء قوم بغاةٌ طغاةٌ عتاة؛ لأنّهم أبواق الظلم والاستبداد والفساد، وهم في هذا الزمان كثيرون منتشرون، لا ينحصرون في المساجد ودهاليز الفتوى والوعظ والإرشاد الدينيّ، وإنّما يَنْبَثُّون في كافّة الزوايا المؤثرة، كالإعلام والتعليم وسائر المنابر التي تجيد الأنظمةُ المجرمةُ تسخيرها.

لا تسرق رغيفي وتعدني بالجنة

كم هي عظيمة! وكم نحن في شوق إليها! وما أجدرنا أن نعمل لله لنفوز بنعيمها! فمن كانت الجنّةُ مَحَطَّ رِحالِهِ بعد طول سفره فإنّ (ذلك هو الفوز المبين)، لكنّ الله تعالى لم يذكرها في كتابه ويُصَرِّف القولَ في بيان ما فيها من نعيم مقيم ليَتَعَزَّى بها القاعدون عن السعي إلى الإصلاح والتغيير، التاركون حقوقهم نهبةً للمفسدين، الْمُعْرضون عن مُعارَضَةِ الاستبداد والفساد، ولا لِيَتَلَهَّى بها الفقراءُ الذين لم يفتقروا إلا لأنّ هناك من يسرق قوتهم، والمساكينُ الذين لم يقعوا في المسكنة والمسغبة إلا لأنّه يوجدُ مَنْ يُضَيّق عليهم المنافذ ويسد في وجوههم الآفاق، فلا تحدثني عن الجنّة لتصرفني عن الذين سرقوا خبز عيالي.

إنّكم أيها الوعاظ الغلاظ تسيئون إلى الخالق قبل أن تسيئوا إلى الخلق؛ إذْ تُزَوّرون دينه الذي ارتضاه للناس، وتُزَيّفون خطابه الذي خاطب به العباد، وتُصَدّقون على الإسلام مقولة الشيوعية الكاذبة عن الدين أنّه “أفيون الشعوب”! وتمارسون بالفعل جريمة تخدير وتنويم الأمّة التي أخرجت إخراجا لا يعرف الذهول ولا الخمول، وهل هناك تزوير أشدّ من سوقكم للنصوص في غير ما سيقت له؟ وتلبيسكم على الناس بذكر بعض الكتاب وإهمال بعضه؟ وإلا فَلِمَ قال تعالى عن أمثالكم من الوعاظ الغلاظ: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) (ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون)؟

قولوها للسارقين المترفين لا للمنكوبين المعدمين

إنّ خطاب الزهد والقصد وعدم الإسراف مُتَوَجِّهٌ في شريعتنا إلى الأغنياء المترفين لا إلى الفقراء المعدمين، وما أوجبه الله من الرضا بالقضاء والصبر على البأساء والضراء لا يعني الاستكانة والتسليم لمن يسرقون الأقوات وينتهبون الأرزاق، فليس في ديننا ذلك الصبر الذي يسمونه صبر الحمار، أو ذلك الرضا الذي يفرضه اللصوص على صاحب الدار، إنّما الصبر في ديننا هو صبر المقاوم المناضل، صبر المقدام المقتحم الوَثّاب، والرضا في شريعتنا هو رضا الحرّ، الذي يرضى بما قسمه الله له بعد استنفاذ الوسع والطاقة في دفع غائلة المعتدي؛ وبهذا نفهم ونعي النصوص المتقابلة في الباب الواحد، فالنبيّ صلى الله عليه وسلم الذي قال: (كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل) هو ذاته الذي أمر بدفع الصائل على المال والعرض، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟ قَالَ: «فَلَا تُعْطِهِ مَالَكَ» قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي؟ قَالَ: «قَاتِلْهُ» قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: «فَأَنْتَ شَهِيدٌ»، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ: «هُوَ فِي النَّارِ».

هلا توجه هؤلاء الوعاظ الغلاظ بموعظتهم إلى أولئك الذين يسرفون في تشييد المدن المحصنة من أرزاق الخلائق؛ لا لمصلحة عامّة ولا لمنفعة تعود على الرعية، وإنّما – فقط – للمفاخرة والمكابرة بشاهق الأبنية، وللتوطيد والتمهيد للمستبدين المناكيد، ماذا سيجنيه الجياع المحرومون من قصور رئاسية فاخرة ومن طائرات (رئاسية!) فاجرة، ومن مدائن ما بنيت إلا ليسكنها الأكابر، الذين برعوا في صناعة مأساة الشعب، وتفننوا في رسم خريطة إفقاره وإذلاله، وإفقار وإذلال من سينحدرون إلى الحياة من أجياله، لا تتوجهوا إلى الشعوب بخطابكم المنكوب، عليكم بالكبار فهم أولى بالوعظ والتذكير واللوم والنكير، قولوا لهم: لا يغرنكم حلم ربكم وإمهاله لكم، فاتقوا الله في الشعوب فإنّهم عيال الله، والله يغار على عياله.

كيف عدلوا عن مطلب العدالة إلى مَطَبِّ النذالة؟

ألم يكن من الواجب على كل من ملك البيان وامتطى صهوة الوعظ والإرشاد أن يُذَكِّر الخلقَ بما اشتمل عليه ديننا من قواعد العدالة الاجتماعية، وأن يبين فيما يبينه للناس حكاما ومحكومين وظيفة الدولة في تحقيق العدالة الاجتماعية في الشريعة الإسلامية؟! وأن يشير إلى هذه المادة الدستورية القرآنية: (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم)؟! ما وظيفة المؤسسات الدينية الرسمية المحصنة قانونيا ودستوريا وشعبيا وأُمَمِيًّا كمشيخة الأزهر؟ ما وظيفتها إن لم تقم بهذه الأدوار الكبيرة؟ ألا تستحي من ممارسة الخداع البشع وهي تقوم بأدوار يكفي للقيام بها صغار الأساتذة في الأزهر؟! وليس في الأزهر صغير.

من يقول للحكام إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما صار له بيت مال كان يقضي منه الدين عمّن مات مدينا؟! ويتلوا عليهم قوله: «أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ تُوُفِّيَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ، وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ»، من يخبرهم بأنّ سنة النبيّ صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون الأربعة في بيت مال المسلمين هي أن يُكْتَسَحَ اكتساحا أولا بأول فلا يبق فيه درهم واحد، وأن يوزع كله (أعطيات) لأفراد الرعية؟ من يخبرهم بهذا ليعلموا أنّ الشريعة تعمد إلى وضع المال في أيدي الناس ليحركوا هم بأنفسهم الأسواق والاستثمار؟! من يسوق إليهم خبر رضوخ معاوية لأبي ذر عندما رفض تسمية مال المسلمين بمال الله؛ لئلا تتخذ التسمية ذريعة لفرض وصاية سياسية استبدادية باسم السماء؟!

إذا كان العدل مقصدا من مقاصد الإسلام، وكان حفظ المال مقصدا كليا عاما من مقاصد الشريعة؛ فإنّ المحصلة اليقينية تكون بلا ريب “العدالة الاجتماعية”، وإذا كانت وظيفة الدولة في الإسلام هي كما عبر العلماء الأفذاذ: “حراسة الدين وسياسة الدنيا به” فإنّ مقتضى ذلك أن تُساسَ الأموالُ بما يحقق العدل ويمنع الظلم ويعالج الفقر ويحقق التنمية الصحيحة، فإذا استطاع الوعاظ أن يقولوا هذا ويبينوه فليفعلوا، وإلا فلينصرفوا راشدين، ولا يصخّوا آذاننا بذلك الخطاب الغليظ البغيض، الذي ما صدر إلا تجاوبًا مع سياسة الحكام في قهر العوام، فإن أبوا إلا الاستمرار في ذلك النشاز فالله المستعان عليهم.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

* د. عطية عدلان؛ عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ومدير مركز (محكمات) للبحوث والدراسات – اسطنبول