وائل قنديل

أكثر من عشر سنوات كاملة لم تكن كافية ليتعلّم أحد شيئًا، أو يدرك أنّ البناء عملية مختلفة تمامًا عن عملية الهدم، وأنّ ما يصلح لإقامة جسر لا يصلح لنسف جدار.

لا يريد أحدٌ أن يواجه نفسه بالحقيقة البسيطة، إنّ قيم الثورة تختلف عن قوانين البورصة، وإنّ صياغة الحلم بالتغيير بمقاييس التجارة وقواعد الشركات المساهمة يحوّل هذا الحلم إلى صفقة، وفي الصفقات تكون الانتهازية والشطارة وخفّة اليد هي الغالبة، وما تكسبه اليوم قد تفقده غدًا.

تنطق السنوات العشر الماضية، بوضوح شديد، إنّ الانتهازية لا تصنع واقعًا محترمًا، وأنه في مقابل كلّ انتهازي شاطر انتهازي أشطر، يستطيع أن يبتلعه ويمضغه ويبصقه أيضًا، لكن المؤسف أنّ قسمًا من تلك الطبقة الانتهازية التي حملت الاستبداد فوق ظهرها لا يزال يواصل اللعبة ذاتها، وبالشروط ذاتها، متوّهمًا أن بالإمكان الحصول من الاستبداد في ضعفه على أكثر مما يمكن الحصول عليه من الاستبداد في قوته، عملًا بقوانين الصفقة التي جرّبوها فوصلت بالجميع إلى حافّة الخراب.

تشكّل الحالة المصرية نموذجًا دالًا على ما يمكن أن تؤدي إليه ممارسات هذه الطبقة، التي تعدّ من لوازم صناعة الاستبداد، كما هو الحال في المشهد التونسي، وبدرجةٍ أقل في المشهد السوداني، إذ يمكن لأي دكتاتور مبتدئ أن يرسّخ لحكمه إذا استطاع تطويع هذه الطبقة، وتقريبها إليه مؤقتًا، ثم التخلّص منها بعد تحقيق غايته.

لا تمانع هذه الطبقة في الارتماء تحت أقدام العسكر من أجل التخلّص من الخصوم السياسيين من المنتمين لما يسمّى تيار الإسلام السياسي، إخوان مسلمين وخلافه، وبعد أن يقضي العسكر على الإخوان وينفردون بكلّ شيءٍ من الاقتصاد إلى السياسة، فإنهم يدهسون بأقدامهم من ارتموا تحتها طمعًا في الحصول على بعض الفتات المتساقط، لكنهم لا يجدون إلا الازدراء والمهانة، وإن فتحوا أفواههم بكلمةٍ يجري التنكيل بهم، بالاتهامات ذاتها الملفقة لخصومهم من الإخوان، فيرتدع منهم كثيرون ويعودون لبيت الطاعة، فيما ينجح بعضهم في الفرار للخارج.

هنا يحاول نفر من هذه الطبقة السياسية الموصوفة أعلاه الانخراط في أنشطة المعارضة في الخارج، ويردّدون الكلام نفسه الذي كانوا يسخرون منه، حين ينطق بهم خصومهم السابقون، بل ويزايدون عليهم في معارضة النظام الذي داسهم بالأقدام من قبل، ويتحوّلون إلى صقور جارحة ضد النظام على نحو يثير الدهشة، فيتذكّر بعضهم، فجأة، قيم التعايش واحترام حقوق الاختلاف وضرورة الاصطفاف ضد العسكر، وضد الذين باعوا البلد وخانوا البلد وصغّروا البلد، إلى آخر هذه التوليفة من الشعارات الساخنة.

تجد هذه الهستيريا من يتحمّس لها ويصدّقها، ويعتبرها طريق الخلاص، ويصير مطلوبًا ألا ينبش أحدٌ فيما مضى أو يذكّر بضرورة التعلّم من الدروس التي عبرت، بل وربما وصل الأمر إلى اتهام كلّ من يتحدث عن قيم ومبادئ ينبغي ألا تغيب في أي عملٍ وطنيٍّ ضد الطغيان بشقّ الصفّ وإحداث حالة من البلبلة وتصدير الإحباط.

وهكذا تجد الانتهازية التي فرّت للتوّ من براثن الطغيان انتهازية أخرى تحتضنها وتتحالف معها باسم المعارضة، وتسلمها القيادة، ثم تأتي اللحظة التي يستفيق فيها الجميع من خمر الاصطفاف المغشوشة، حين يتبيّن أنّ الانتهازية الأولى استخدمت الانتهازية المستجدّة في محاورة سلطة الطغيان وملاعبتها والتفاوض معها، ليرفع الستار عن مشهد الرجوع إلى جنّة الاستبداد، والتصالح مع خزنتها، على إيقاعات موسيقى الوطنية الزاعقة.

مؤسفٌ أن تكون المسألة برمّتها نوعاً من صفقات غسيل الماضي، هي للتجارة أقرب منها إلى العمل السياسي المحترم، فتجد إلحاحاً وكفاحاً من أجل إسباغ ألقاب نضالية، ومنح صكوك استشهاد وبسالة على من صنعوا الحريق، وأراقوا الدماء، كما هو حاصلٌ مع شخصياتٍ حشدت للخراب، وعادت في مسوح رهبان.

هذه الانتهازية، العريقة منها والمستحدثة، أخطر على الثورات من العسكر.

المصدر: العربي الجديد