بقلم: الشيخ عبد الرحمن أبو الهيجاء

سئل حسن البنا رحمه الله: من أنت؟

فقال: «سائح يطلب الحقيقة، وإنسان يبحث عن مدلول الإنسانية بين الناس، ومواطن ينشد لبلده الكرامة والحرية والحياة الطيبة في ظل الإسلام، ومتجرد أدرك سر وجوده».

هذا هو حسن البنا باختصار؛ نذر حياته لله تعالى منذ نعومة أظفاره، عاش حياة قصيرة لم تتعد ثلاثة وأربعين سنة، حيث خرقت جسده الطاهر رصاصات غادرة جبانة، كانت تظن أنها باغتياله تغتال فكره ومنهجه وجماعته التي بناها عام 1928. وكان اغتياله في الثاني عشر من فبراير عام 1949.

قال فيه عبد الكريم الخطابي – رحمه الله: «يا ويح مصر والمصريين مما سيأتيهم من قتل حسن البنا، فقد قتلوا وليا من أولياء الله، وإن لم يكن البنا وليا فليس لله ولي».

إن دماءه– رحمه الله تعالى – روت هذه الدعوة التي صدع بها في الدنيا، ونمت وترعرعت، وما زالت تتجدد وستبقى حتى قيام الخلافة الإسلامية الراشدة.

أراده الجبناء الأشقياء ميتاً في جسده ودعوته، وأرادها الله دعوة حية لا تموت، لتكون هي المدرسة الأم لمدارس الصحوة الإسلامية وبامتياز.

فقد أسسها بعد سقوط الخلافة بأربعة أعوام، عاملاً على تفادي كل أسباب سقوط الخلافة التي رآها، فوضع لها أركانا عشرة، هي السياج والأمان والثوابت التي لا تتزعزع ولا تتصدع، الفهم والإخلاص والعمل والجهاد والتضحية والطاعة والثبات والتجرد والأخوة والثقة.

ثم جاء بالأصول العشرين لتكون شرحا وافيا لركن الفهم، فأحسن وأجاد، وشمل بها مفاهيم الإسلام، التي كانت غريبة ومستهجنة على العقول وواقعها يومَها.

انطلق لوحده يعاكس التيار، ثم التحق به ثلاثة إخوة، متوكلا على الله أيما توكل.

قال فيه محمد عبد الله الخطيب – رحمه الله: «إن الإمام البنا كان ملهما يحسن التوكل على الله، ويحسن الأخذ بالأسباب، وهو قدوة طيبة لمن رآه أو اقترب منه».

وما كانت انطلاقته إلا لما رأى من سقوط الخلافة وسيطرة الغريب المحتل على العقول والبلاد، وتأثُّر الناس بهم، فاستفزه ذلك، واحترق منه الفؤاد فقال: «لقد ألهبت هذه الحوادث نفسي، وهاجت كوامن الشجن في قلبي، ولفتت نظري إلى وجوب الجد والعمل، وسلوك طريق التكوين بعد التنبيه، والتأسيس بعد التدريس».

ولذلك كان اهتمامه الأول تأليف الرجال قبل تأليف الكتب، فصب جهده في البناء، وهو يصرخ في إخوانه وأتباعه: «علامة الرجل الصالح أن يترك في كل مكان يحل فيه أثرا صالحا».

حرص من أول يوم في تربيته على ضمان بقاء الدعوة على أمرين اثنين، كصفتين أساسيتين لها:

1- التكامل

2- التوازن.

فهي تربية ودعوة متكاملة متوازنة، شمولية وواقعية، عملية ووسطية.

سار فيها بخطين متوازنين؛ المواجهة والمسالمة.

* المواجهة مع أعداء الله المحتلين الإنكليز، ثم الصهاينة على أرض فلسطين، دون مواربة ولا مداهنة.

* ومسالمة مع قومه وشعبه بجميع مركباته المختلفة.

فقد نزل ساحة الدعوة إلى الله مع شعبه، وهو حريص على هداية كل فرد فيه، بصدق وإخلاص، وتجرد وتضحية وهو يقول: «لو أستطيع أن أبلغ هذه الدعوة للطفل في بطن أمه لفعلت، وإنما نقاتل الناس بالحب».

فتواضع للناس يجاملهم ويعاشرهم ويتودد إليهم ويتألف قلوبهم، وهو يقول لإخوانه على مسامعهم: «أيها الإخوان: هل أنتم مستعدون أن تجوعوا ليشبع الناس، وأن تسهروا لينام الناس، وأن تتعبوا ليستريح الناس، وأن تموتوا لتحيا أمتكم؟».

فلما كان الناس يسمعون هذا ويرونه لا ينام الليل، يجوب البلاد شرقا وغربا، أحبوه حبا لم يحظ بمثله إنسان عادي.

كان يقول لهم بكل صدق ووضوح: «لا غاية لي من دنياكم شيء، إلا أنني أريد مصر الدولة المحررة من سيطرة الغريب الدخيل، وما أريد إلا الإصلاح ما استطعت، ليكون النظام السياسي والاجتماعي أحسن ما يكون، وأن لا تضيع هويتكم الإسلامية أفرادا ومجتمعا ودولة».

وجد الخلافات الفقهية الفرعية بين العلماء ومدارس الصحوة الإسلامية قد استنزفت الجهود والعقول والأوقات، فأخذ يعمل على تذويبها واحتوائها بمرونة وسعة صدر وحكمة لم يسبق لها مثيل، فأسس لجنة سماها (لجنة التقريب بين المذاهب)، ووضع لها القاعدة العظيمة «نتعاون على ما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا على ما اختلفنا عليه»، قائلا: «لا نرضى لجماعة أو فرد أن يدعي العصمة في أمور الاجتهاد لبحث الحق، سواء ظهر على لساني أو لسان غيري، ولا نبحث عن سقطات الآخرين لننفر الناس منهم».

كان همه الوحيد في هذا المجال أن يؤلف القلوب، وأن يذيب أسباب الفرقة التي كانت أحد أسباب سقوط الخلافة وسيطرة الأجنبي، فقال: «فلنلتمس العذر لمن يخالفوننا في بعض الفرعيات، ونرى أن هذا الاختلاف لا يكون حائلا دون ارتباط القلوب وتبادل الحب»، مؤكدا أن الاختلاف الفقهي أمر لا بد منه، فصرح أن «البعد عن مواطن الخلاف الفقهي فلأن الإخوان يعتقدون أن الخلاف في الفرعيات أمر ضروري لا بد منه».

لم ينس دعوة الملوك والرؤساء في بلاده، فإنها جبهة لعلها من أهمها، إذ بصلاحهم صلاح الأمة وبفسادهم فساد الأمة، فكان يقول: «لو أعلم أن لي دعوة مستجابة عند الله لدعوتها لفاروق، فإن بصلاحه يستقيم خلق كثير».

فكتب رسالة: (نحو النور) قصد بها هؤلاء، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويدعوهم إلى الله وتحكيم شرعه ودينه.

ثم انطلق إلى الأحزاب السياسية المتصارعة المتحاقدة، فبدأ يعمل على نصحهم وتأليفهم والتعاون معهم لمصلحة البلاد والعباد، يرد عنهم العصبية الحزبية قائلا: «إن الحزبية تقوم على التعصب للرأي، وهي من أسباب الفرقة، وفرق بين حرية الرأي والتفكير وبين التعصب للرأي، ونحن لا نهاجم أحدا، لأننا في حاجة إلى الجهد الذي يبذل في الخصومة لننفقه في عمل نافع وكفاح إيجابي، معتقدين أن البقاء للأفضل».

وبكل مرونة وحكمة كان يقول لتلك الأحزاب: «إنا لنضع أنفسنا ومواهبنا وكل ما نمتلك تحت تصرف أية هيئة أو حكومة تريد أن تخطو بالأمة الإسلامية نحو الرقي والتقدم، نجيب النداء ونكون الفداء، ونرجو أن نكون قد أدينا بذلك أمانتنا وقلنا كلمتنا، والدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم».

هكذا عمل حسن البنا، وهكذا بنى، وهكذا ربى إخوانه، متحدين كل العقبات، راكبين كل المخاطر في سبيل الله، بتنظيم دقيق، وتعامل حكيم، وتربية متكاملة متوازنة، فجمع بين الصلابة والمرونة، وبركة التوكل على الله، وروعة التنظيم والإعداد، والعظمة والتواضع، فكيف لا تحيا دعوته، وكيف لا تتجدد وهي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها؟

قال فيه أبو الحسن الندوي – رحمه الله: «إن كل من عرف البنا عن كثب لا عن كتب، وعاش متصلا به، عرف فضل هذه الشخصية التي قفزت إلى الوجود، وفاجأت مصر والعالم الإسلامي والعربي كله، بدعوتها وجهادها، وقوتها الفذة، فقد اجتمعت فيه صفات ومواهب تعاونت في تكوين قيادة دينية اجتماعية لم يعرف العالم العربي والإسلامي وما وراءه أقوى وأعظم تأثيرا، أو أكثر إنتاجا منها منذ قرون، وفي تكوين حركة إسلامية يندر أن تجد حركة أوسع نظاما وأعظم نشاطا وأكبر نفوذا منها».

وهذه حقيقة دون مبالغة من الندوي رحمه الله، والواقع والتاريخ يشهدان بذلك.

فقد انتشرت أفكاره ومنهجه وجماعته في مشارق الأرض ومغاربها، لتكون في أكثر من تسعين دولة، تتوارثها الأجيال بعد الأجيال، ولكل زمان رجاله، يحملون الراية لا يخافون في الله لومة لائم.

فلو لم تكن دعوة شاملة متكاملة متوازنة، هل كانت ستصمد وتبقى إلى اليوم؟ ولو لم تكن ربانية صادقة هل كانت تستطيع أن تقود الأمة في ربيعها العربي، لتكون الحاكمة في مصر وليبيا وتونس واليمن، وفي سوريا قريبا بإذن الله؟

إنها الراسخة رسوخ الجبال الرواسي، تتحطم عليها جميع المعاول المتكالبة الحاقدة من العلمانيين والفاسدين، وستبقى تتجدد تمخر عباب البحار المتلاطمة متوكلة على الله، وهي مؤمنة بقوله تعالى (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ (17)). الرعد.

رحمك الله إمامنا، وتقبلك في الشهداء الخالدين، وجمعنا بك يوم الدين، وأنت كما قال عنك البهي الخولي – رحمه الله: «طبق من النور ألمّ بهذه الدنيا إلمام الغريب الطارئ ثم تركها ومضى، وماذا يترك الطبق في هذه الدنيا، يترك كل شيء، ولكنه يترك لها كل شيء».

والله أكبر ولله الحمد