النغمة السائدة الآن في أوساط جمهور الطغيان أن هناك مؤامرة كونية على مصر يجري تنفيذها الآن بمحاصرتها وخنقها اقتصاديًا، والهدف تركيعها، بعد أن فشلوا في إخضاعها سياسيًا وعسكريًا.
في سيرك الهذيان القومي الباعث على الحزن، لا تعدم أصواتًا توجّه الاتهام بالتآمر لدول عربية خليجية كانت، وبالمصادفة، الداعم المالي الأول للنظام الحاكم في مصر، بأرقام فلكية بلغت نحو 40 مليار دولار منذ اللحظة الأولى التي نفذ فيها رغبتها في قتل الثورة المصرية ومواراة حلم التغيير الديمقراطي التراب، قبل أن يتمدّد خارجيًا.
لا خلاف مع هؤلاء"الوطنيين جدًا" في أن هناك مؤامرة شريرة على مصر، لكن الخلاف هو في طبيعة هذه المؤامرة وأبعادها، وتحديد عمرها الحقيقي، ففي حين يذهب هؤلاء إلى أنها ابنة التوّ واللحظة، فإن القراءة الموضوعية تقول إنها بدأت منذ نحو عشر سنوات، وبالتحديد مع التخطيط للإجهاز على تجربة ذلك الرجل الطيب الذي أطلق صيحة "لننتج غذاءنا ودواءنا وسلاحنا"، والذي مات شهيدًا وهو بملابس السجن الرئيس محمد مرسي.
بدأت المؤامرة فعليًا في نهاية يونيو 2013، ونحن الآن نعيش مرحلة حصادها، على يد نظام وصفته مبكّرًا بأنه حصيلة كل نوازع التربّص الشرير ورغباته، بما أنتجته ثورة المصريين في يناير 2011، بل هو عصارة مؤامرات كل الأطراف الكارهة لتغيير ديمقراطي في مصر، يحرّر قرارها السياسي من الإملاءات والرغبات الإسرائيلية، والضغوط القادمة من دولٍ، أخذت على عاتقها منذ اليوم الأول للربيع العربي أن تجهضه.
ما نحن بصدده لا ينبغي أن يفاجئ أحدًا، ذلك أن من الجنون أن تنهض أمةٌ يخاصم نصفها النصف الآخر، ويحكمها نظامٌ يتصوّر أن لا بقاء له ولا استقرار إلا باستعداء بعض الشعب على بعضه الآخر، مع مراعاة تجديد هذه العداوة، كلما بدا أن نارها تنطفئ أو تضعف. كما لا يعقل أن نظامًا يعلن، منذ اليوم الأول، اعتماده على مساعدات ومنح ومكافآت "أهل الخير"، بحجّة أنه يحارب نيابة عنهم "أهل الشر"، يمكن أن يصلح للبناء أو صناعة حالة استقلال وطني تعفي البلاد والعباد من الاستدانة والخضوع الكامل لإرادة صندوق النقد الدولي، والاستسلام لحالة الاقتراض المستمر بضماناتٍ من أطراف إقليمية بدأت تتململ من لعب دور الضامن لنظامٍ غير مضمون، لا يجيد، خارجيًا، سوى تقمّص حالة "رجل المنطقة المريض" المحتاج للعلاج والإنعاش طوال الوقت، وفي الداخل لا شيء عنده سوى ترويج الأوهام عن القوة والقفزة والانطلاقة التي تستفز حسد الحاسدين.
في العام 2015 وبعد أن أحكم الجنرال السيسي قبضته على السلطة، نشرت ملخص نقاش سريع مع طبيب مرموق قادم من مصر لحضور مؤتمر علمي في الخارج، التقيته مصادفة في مطار عاصمة أوروبية، فسألني: إلى أين ذاهبون؟ .. قلت  له: بما أنك قادم من القاهرة، فالإجابة عندك. .. فكان ملخص رؤيته أن الحياة تسير غير أنها الحركة باتجاه الانفجار، ثم راح يشرح بلغة الطب: كأنهم فتحوا بطن مريضٍ لإجراء جراحة فوجدوا فردة حذاء، لم يستطيعوا التصرّف فيها، فأغلقوا الجرح وقالوا للمريض أنت بخير، وصدّق المريض أنه على ما يرام، كما صدّق الأطباء الذين أغلقوا بطنه على الحذاء أنهم مبدعون، وناجحون، وصدّق المحيطون بالمريض أنه شفي، وأن معالجيه نوابغ، وعليه أن يشكرهم على نعمة الاستقرار. وأضاف: لا أحد يريد أن يعترف بأن كارثةً في الطريق، ولا أحد يعرف متى ينفجر بطن المريض، الذي هو بمعيار علمي، ميتٌ على قيد الحياة.
تصوّر مفزع لكنه كان معبرًا بدقة عن المقدّمات التي أوصلتنا إلى النتائج الراهنة بعد ثماني سنوات من حقن الجماهير بالأحلام المستحيلة، لنصل إلى اللحظة التي يدرك فيها الجميع أنه تم إغلاق بطن المريض على حذاء، وإغلاق دماغه على أوهام، وأن الذين أغلقوا البطن ليسوا أطباء، بل مجموعة من الدجّالين الذين ادّعوا أنهم علماء وخبراء في كل المجالات.
لقد انفجر الحذاء في بطن المريض، وانفجرت فقّاعة الأوهام في رأسه، فقرّر أن يصرخ في وجه الذين مارسوا أكبر عملية خداع عليه، من دون أن يملك القدرة على إخراج الحذاء من بطنه.

المصدر: العربي الجديد