بقلم: جمعة أمين عبد العزيز  

المخلص صبور ثابت

إن دراسة سيرة رسول الله ﷺ يستخلص منها الدروس والعبر التي يستفيد منها الدعاة إلى الله، وهم يسيرون في طريق الله، فيتعلمون من رسول الله ﷺ أن المحن والشدائد لا تحمل الداعي المخلص لدعوته على أن يستسلم لأعداء الله، بل عليه أن يستمسك بالعروة الوثقى، وأن يتوكل على الله وحده، ولا يدع الشدائد تزحزحه عن إيمانه بالله وعن رسالة الحق التي يدعو إليها ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)﴾ (الأحزاب).

فبصبرهم وإيمانهم، وثباتهم وإخلاصهم كانت العقبى لهم: ﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)﴾ (الأحزاب).

كل ذلك بفضل صدقهم مع الله وصمّ آذانهم عن صرخات المرجفين الذين فقدوا الإخلاص لدينهم ورسالتهم في الوجود، وهم يصيحون بالتشكيك في وعد الله الذي وعد به عباده المخلصين، ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا (12)﴾ (الأحزاب)، فضلًا عن الإعراض عن سماع البعض الآخر منهم، كانوا ينصحون المؤمنين بالتراجع والتخلي عن الطريق ﴿وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا (13)﴾ (الأحزاب)، وما أشبه الليلة بالبارحة فهي سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلًا.

إن الإخلاص إذا شابته شائبة لا يتحقق به نصر، ولا يتوحد به صف، بل تكون الهزيمة محققة وانتصار الأعداء لا مفر منه؛ لأنهم أكثر عدةً وعتادًا، ولا ينتصر الضعيف على القوي، ولا القليل على الكثير، ولا الأعزل على المسلح إلا بالإخلاص والأخذ بالأسباب ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة: من الآية 249)، وهكذا واصلت الدعوة الإسلامية طريقها وأصبح لها تاريخ، ولها أمة لن تموت بفضل الله ثم بفضل رجالها المخلصين لمنهجهم، المخلصين لجماعتهم، المخلصين لقيادتهم؛ بعد أن حققوا عقد الإيمان بينهم وبين خالقهم، وعقد الأخوة فيما بينهم بصبر لا ينفد، وعزم لا يلين، وثبات لا يهتز، واصطبغوا بصبغة الله ومن أحسن من الله صبغة في كل صغير وكبير، واستعلوا على شهواتهم، ولم تستعبدهم لذاتهم، ولم تستذلهم أهواؤهم.أخطار تهدد الإخلاص

إن حرارة الإخلاص تنطفئ رويدًا كلما هاجت في النفس نوازع الأثرة وحب الثناء، والتطلع إلى الجاه، وبعد الصيت، والرغبة في العلو والافتخار وحب الظهور، والرغبة في أن يُرى الإنسان في مقدمة الصفوف وأماكن التوجيه، ذلك لأن الله يحب العمل النقى من الشوائب المكدرة ﴿أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾ (الزمر: من الآية 3)، من أجل ذلك يقول الرسول ﷺ: «اليسير من الرياء شرك، ومَنْ عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة، إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء الذين إن غابوا لم يفتقدوا، وإن حضروا لم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من  كل غبراء مظلمة» (1).لهذا وجب على الداعي إلى الله أن يجعل عمله منزهًا عن الشوائب، يؤثر ما عند الله، ويحتسب بدينه ودنياه رضا الله سبحانه وتعالى، ويتولد بهذا الإخلاص أمهات الفضائل ويسود الخلق الكريم، والنهج القويم، والسلوك الحميد، وتنمحي أمهات الرذائل؛ لأن المخلص لدينه صادق مع نفسه، صادق مع ربه، محسن في عمله؛ من أجل ذلك كان من سمات الرعيل الأول: صدق الحديث، ودقة الأداء، وضبط الكلام، فتحقق مجتمع العدل والإحسان.صحة الفهم وحسن القصد

«إن صحة الفهم، وحُسن القصد، من أعظم نعم الله التي أنعمها على عبده، بل ما أعطى عبد عطاء بعد الإسلام أفضل وأجل منهما، بل هما ساقا الإسلام وقيامه عليهما، وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم؛ وطريق الضالين الذين فسدت فهومهم، ويصير من المنُعم عليهم الذين حسُنت أفهامهم وتصورهم، وهم أهل الصراط المستقيم الذين أمرنا أن نسأل الله أن يهدينا صراطهم في كل صلاة، وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد، يميز به بين الصحيح والفاسد، والحق والباطل، والهدى والضلال، والغي والرشاد، ويمدّه حسن القصد، وتحري الحق، وتقوى الرب، في السر والعلانية، ويقطع مادته اتباع الهوى، وإيثار الدنيا، وطلب محمدة الخلق، وترك التقوى» (2).وصدق الرسول الكريم ﷺ إذ يقول: «مَنْ فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده لا شريك له، وأقام الصلاة وآتى الزكاة، فارقها والله عنه راضٍ» (3).فما أحوج المسلمين – اليوم – إلى جماعة تحمل هذه المعاني سلوكًا، وتحقق هذه الأهداف حياةً، جماعة تتحلى بتقوى الله، وحسن الخلق، وتقوم على صحة الاعتقاد وصدق الاتباع وتخلص لدعوتها حياة، ومنهجها تطبيقًا، ولأفرادها حبًّا، ولقيادتها طاعة، ليجري الله الخير على يديها فتستعيد مجدًا تليدًا، وطريقًا قويمًا، وصراطًا مستقيمًا، ومجتمعًا آمنًا فتجدد بذلك كله مجدًا قديمًا كاد الناس أن ينسوه؛ ولتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى.

﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (الأنفال: من الآية 42).

———————–

1) رواه الحاكم.

2) إعلام الموقعين للإمام بن القيم (الجزء الأول)، ص 87، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد.

3) رواه ابن ماجه.