عبد الله الشافعي

ولنا فى سيرة النبى- صلى الله عليه وسلم- خير الزاد، فالقرآن والسنة مرجع كل مسلم فى تعرف أحكام الإسلام، وليس كالسيرة النبوية العطرة تطبيقًا للقرآن والسنة، ولهذا حفظها الله، ففيها كل ما يحتاج إليه الناس من خيرى الآخرة والأولى. 

ولنا فى هذا الموقف العجيب دروس وعبر، فقد هلك الناس بين تقديس الفضلاء وبخسهم حقوقهم، بين أن يكونوا أسرى لحسناتهم، لا يملكون أمام الأخيار عقولًا ولا يهتدون سبيلًا، وبين أن يلعنوا الصالحين منهم بمجرد الاختلاف أو شبهة الخطأ الوارد. فإلى هدي النبى الكريم صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- وإنصافه، وتوازنه، واعتداله، وعدله.   

في البخارى عن علي بن أبى طالب- رضي الله عنه- قال: بَعَثَنِي رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والزُّبَيْرَ بنَ العَوَّامِ وأَبَا مَرْثَدٍ الغَنَوِيَّ، وكُلُّنَا فَارِسٌ، فَقَالَ: انْطَلِقُوا حتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فإنَّ بهَا امْرَأَةً مِنَ المُشْرِكِينَ، معهَا صَحِيفَةٌ مِن حَاطِبِ بنِ أبِي بَلْتَعَةَ إلى المُشْرِكِينَ، قَالَ: فأدْرَكْنَاهَا تَسِيرُ علَى جَمَلٍ لَهَا حَيْثُ قَالَ لَنَا رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قَالَ: قُلْنَا: أيْنَ الكِتَابُ الذي معكِ؟ قَالَتْ: ما مَعِي كِتَابٌ، فأنَخْنَا بهَا، فَابْتَغَيْنَا في رَحْلِهَا فَما وجَدْنَا شيئًا، قَالَ صَاحِبَايَ: ما نَرَى كِتَابًا، قَالَ: قُلتُ: لقَدْ عَلِمْتُ ما كَذَبَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والذي يُحْلَفُ به، لَتُخْرِجِنَّ الكِتَابَ أوْ لَأُجَرِّدَنَّكِ، قَالَ: فَلَمَّا رَأَتِ الجِدَّ مِنِّي أهْوَتْ بيَدِهَا إلى حُجْزَتِهَا، وهي مُحْتَجِزَةٌ بكِسَاءٍ، فأخْرَجَتِ الكِتَابَ، قَالَ: فَانْطَلَقْنَا به إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقَالَ: ما حَمَلَكَ يا حَاطِبُ علَى ما صَنَعْتَ قَالَ: ما بي إلَّا أنْ أكُونَ مُؤْمِنًا باللَّهِ ورَسولِهِ، وما غَيَّرْتُ ولَا بَدَّلْتُ، أرَدْتُ أنْ تَكُونَ لي عِنْدَ القَوْمِ يَدٌ يَدْفَعُ اللَّهُ بهَا عن أهْلِي ومَالِي، وليسَ مِن أصْحَابِكَ هُنَاكَ إلَّا وله مَن يَدْفَعُ اللَّهُ به عن أهْلِهِ ومَالِهِ، قَالَ: صَدَقَ، فلا تَقُولوا له إلَّا خَيْرًا قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ: إنَّه قدْ خَانَ اللَّهَ ورَسوله والمُؤْمِنِينَ، فَدَعْنِي فأضْرِبَ عُنُقَهُ، قَالَ: فَقَالَ: يا عُمَرُ، وما يُدْرِيكَ، لَعَلَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ علَى أهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ، فقَدْ وجَبَتْ لَكُمُ الجَنَّةُ قَالَ: فَدَمعتْ عَيْنَا عُمَرَ وقَالَ: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ.

وهنا تجد ضالتك يا من تبحث عن الحق متجردًا، والشرط أن نتجرد جميعنا من كل هوى، أن نتجرد للحق، لديننا ودعوتنا، لقيمنا ومبادئنا، وبدون ذلك التجرد فلن نلتقي، ولن يكون من المدارسات عائد، ولا من المواعظ فائدة، ذلك أن صاحب الهوى والحكم المسبق يجر النصوص إلى ما يريد، ويؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض، ويضخم من النص ويهول كل ما يخدم هواه، ويدعم رأيه، ويتجاوز ويهون كل ما يخالفه، وتلك جريمة أخرى. رب أعوذ بك من همزات الشياطين واعوذ بك رب أن يحضرونِ.

فحاطب- رضي الله عنه- قد أخطأ، قد ارتكب خطأً ضخمًا، لكنه من أهل بدر! وهنا تتجلى روعة النبوة، وجلال النبوة، وهدي النبوة، هنا تتجلى حاجتنا للاقتداء برسول الله- صلى الله عليه وسلم- تتجلى حاجتنا التى لا تنقطع، ولا يجوز لأحد أن يتكبر عليها، أو يعرض عنها، لقد أخطأ حاطب، فكان الخطأ متفقًا عليه، لم يجادل فيه أحد، ولم ينكره أحد، ولم يدافع عنه أحد! وحين تحدث حاطب- رضي الله عنه- لم يكذب، ولم يدلس، ولم يجادل بباطل، بل صدق في تبريره لخطيئته، وقد شهد له الرسول بالصدق، ثم كان سبقه وفضل كونه بدريًا ثابت لم يتأثر بالخطأ، كما أن المبدأ والقيمة لم تتأثر به، وتلك هي المعادلة الأصعب في دنيا الناس، وذلك هو الدرس النبوي الرفيع، والخطة المحكمة للنجاة.

إن فضل الناس وتاريخهم، ومجدهم وجهادهم، وحبنا لهم، وكرامتهم علينا، كل ذلك لا يملك تغيير القيم والمبادئ، ولا يجوز بحال أن يتحول مصدرًا لصواب موقف، أو لإقرار حق، أو لتقرير باطل، إن وزن الناس- مهما عظم- يظل حالة نجاح لها قدرها، وتحفظ لأصحابها ما يستحقون من ثناء حسن، وتكريم وتقدير. لكن تقرير القيم والمبادئ له طريق آخر لا يمر إلا بالكتاب والسنة، فمهما عظم قدر الناس، ومهما بلغت إنجازاتهم، تبقى أعمالهم المفردة كلها تحتاج إلى ميزان الكتاب والسنة، يشهد لها النص المقدس بالصواب أو الخطأ.

لكن- وعلى الجانب الآخر- لا يجوز لنا أن ننكر فضل أهل الفضل، وإكبار من له إنجاز، وبالجملة لا ننكر خيرًا لأحد بسبب خطأ، أو اختلاف، وهذا يحدث كثيرًا، فترانا نسرع فى هضم الحقوق والتشكيك فى التاريخ القريب الذى شهدناه، ونتنكر لوقائع عايشناها، وكأننا نود أن نمحوها من ذاكرتنا وذاكرة الجميع، وكل هذا الظلم والاعتداء لأن أصحاب هذا الفضل الجميل والتاريخ المشرف قد اختلفوا معنا، أو وقعت منهم أخطاء!

الحق أن كلا المسلكين ظلم واعتداء، ولا خير إلا فى هدي النبى العظيم- صلى الله عليه وسلم- فقد اعتدل وعدل. وكان منهجه التوازن كله، والحق كله، والخير كله. لقد حفظ لحاطب فضله، وأنكر عليه خطأه، لقد انتصر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لكل القيم والمبادئ-كما هو الحال دائمًا- انتصر لقيمة العدل، ومبدأ المحاسبة، وقيمة حفظ الحقوق، ومبدأ إنكار المنكر، ورعاية أهل السبق، وقيمة تخطئة المخطئ.

على أنني أرى أن الدرس الأكبر من هذه الواقعة هو ترك الحكم على الناس، والتواضع فى تقرير مصائر العباد، إن الدرس الأكبر هو أن نتفق على المبادئ، ونقر القيم ونحترمها، ثم نترك الناس والحكم عليهم لله رب العالمين، فهو أعلم بهم.