وائل قنديل

نخدع أنفسنا ونضحك العالم علينا إن نحن استسلمنا للسردية الهابطة عن الاحتلال الصهيوني بوصفه تجمعًا بشريًا عاديًا، له سمات المجتمع المدني الطبيعي وملامحه، في مواجهة مجتمع آخر، فلسطيني، على الأرض ذاتها، متهم طوال الوقت بالإرهاب.

تحتقر هذه السردية التاريخ الحقيقي للصراع، وتمنح الطرف المعتدي الفرصة لمواصلة إنتاج من الأساطير والأكاذيب، وتكريس ما سلف منها باعتبارها حقائق ثابتة, ومن أسفٍ أن هذه الرواية الكذوب لم تعد حكرًا على الميديا الصهيونية فقط، أو الدوائر الغربية المنحازة للاحتلال فحسب، بل صارت، كذلك، معتمدةً لدى بعض النخب المحسوبة عربية، لكنها تفضّل أن تصنف نفسها شرق أوسطية، انسلاخًا من هويةٍ مثبتةٍ باستحقاقات التاريخ والجغرافيا واللغة والثقافة، والتحاقًا بهويةٍ بديلةٍ تعجب العقل الغربي وتستجيب لنظرته لقضية فلسطين.

الأسبوع الماضي، ومع تفاقم حالة السعار التي أصابت الاحتلال الصهيوني، بعسكرييه وسياسييه، ومستوطنيه، كان ثمّة ردة فعل فلسطينية شعبية مقاومة في مدن الضفة الغربية، تحاول أن تتصدّى لأعمال القتل والاعتقالات الدائرة في المدن والبلدات، فكيف كان ردّ سلطات الاحتلال الإسرائيلي؟

 فقط قرّر الاحتلال دعوة المستوطنين الصهاينة، الذين يسمّيهم مواطنين، إلى حمْل جميع أنواع الأسلحة في أثناء الاحتفالات بما تسمّى رأس السنة العبرية، وهو الإجراء الذي يعني أن سلطات الاحتلال تمنح تصريحًا مفتوحًا لجميع الصهاينة بقتل الفلسطيني واستباحة دمه، من دون أن تكون هناك أدنى عقوبة على القاتل.

في وسط هذا المناخ الهستيري، تتكرّر مشاهد الهجوم الهمجي على منازل الفلسطينيين، أصحاب الأرض، وممتلكاتهم، بالإضافة إلى دور العبادة والمقدّسات، فيما يكون في الصفوف الأولى من المعتدين حاخامات وقيادات دينية وسياسية متطرّفة، ترقص وتهتف بالهلاك لعرب فلسطين، وتبيح قتلهم والاستيلاء على ممتلكاتهم.

‏هذه المشاهد المتكرّرة  دفعت كاتبًا إسرائيليا هو جلعاد غروسمان إلى السخرية من النخب المنافقة التي تزعم إن صعود التيار المتطرّف بقيادة الصهيوني بن غفير يتناقض مع توجهات إسرائيل كدولة، كون تاريخ الاحتلال الصهيوني كله يؤكّد أن أفكار بن غفير هي العقيدة الثابتة لإسرائيل، حكومة ومستوطنين، والتي عن طريقها نفذت مشروعها الإحلالي بطرد الفلسطينيين والاستيلاء على أرضهم.

لم يأت الكاتب الإسرائيلي بجديد، فالثابت تاريخيًا أن هذا الكيان الصهيوني، الذي يسمّي نفسه دولة، تأسس على مجموعةٍ من الأساطير سوّلت له سرقة الأرض وقتل شعبها، باعتبارهم الأغيار الذين لا بأس من إبادتهم لكي تقوم الدولة اليهودية.

والحال كذلك لا يمكن، بأي من المقاييس العقلية والاعتبارات الأخلاقية والمنطقية، افتراض وجود مجتمع مدني إسرائيلي، إذ كل ما هنالك مجموعة من العسكريين المهووسين دينيًا، ومجموعة من المتدينين المتطرفين المتعسكرين، ومجموعات من المستوطنين، هم خليطٌ من اللوثة الدينية المتطرّفة والهوس العسكري القاتل، مطلوب منا أن نعتبرهم "مواطنين" طبيعيين في مجتمع بشري طبيعي داخل دولة طبيعية.

ومطلوبٌ كذلك التسليم بما تردّده الميديا الصهيونية في الغرب، وبعض النخب العربية المتصهينة، من أن أية مقاومة لهذا الإرهاب الاستعماري المدجّج بالسلاح والمسلّح بالأساطير التلمودية المتطرّفة تعد إرهابًا وعنفًا واعتداءً على مدنيين صهاينة، كما يذهب كتبة ومتثاقفون شرق أوسطيون من نوعية عمرو حمزاوي، وإبراهيم عيسى، يرون الحجر والسكّين في يد الفلسطيني الذي يسرقون أرضه ويحرقون أطفاله ويعتدون على مقدساته، لكنهم لا يرون الأسلحة الثقيلة في يد المحتل الصهيوني، ويساوون بين المقاوم الفلسطيني دفاعًا عن وطنه المسلوب والمستعمر الصهيوني الساعي إلى توسيع رقعة الأرض التي اغتصبها آباؤه.

حقائق الماضي وشواهد الحاضر واستشرافات المستقبل تؤكد دائمًا إنه ليس ثمّة محتل مدني، فكل مستعمر هو جندي في جيش احتلال، لا فرق بين حاخام وجنرال، فكلهم يريدون الحياة فوق جثثنا، بينما كل الذي يقاوم هذا الاحتلال هو مدني، وإن حمل السلاح دفاعًا عن حياته وأرضه.