بقلم:  فضيلة المرشد العام الدكتور محمد بديع(فك الله بالعز أسره)

بدايةً أحب أن أذّكر بقول الله عز وجل: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)﴾ (المؤمنون)، إن هذه الصفة المهمة من صفات المؤمنين – أهل الجنة – تعني رعاية وصيانة الأمانات والعهود التي يقطعها الإنسان على نفسه مع الله ثم مع الناس، ولكي نكون ممن يفعلون ما يوعظون به سننظر ما هي الإجراءات التي بها ننفذ هذا التكليف؟ يتطلب هذا فيما سنتناوله بإذن الله وهي الأخوة والتجرد والثقة فهي ثلاث صفات عاهدنا الله عز وجل عليها ببيعتنا ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ﴾ (الفتح: من الآية 10)، فلا دخل للبشر هنا لكي يكونوا طرفًا ننتظر منهم مقابلًا حتى يصدق فينا بحق أننا «نعيش مع الحق بغير خلق ونعيش مع الخلق بغير نفس ونعيش من النفس بغير هوى».

الأخوة كما وصفها الأستاذ البنا – رحمه الله – من وضع أسس هذه الجماعة المباركة بأن الحدود الدنيا أو الخط الأحمر الذي لا يسمح بتجاوزه هو سلامة الصدر. هل تدري ما معنى سلامة الصدر؟ هل جربتها؟ هل إذا حدث فيها شرخ أعدتها سليمة كما كانت؟ فأين هي عندك أنت ولا شأن لك بغيرك؟ لأن الله عز وجل يحبك على قدر حبك أنت لإخوانك لا بقدر حبهم لك، وتتصاعد درجات الأخوة المباركة لتصل إلى أعلاها وهو الإيثار؟ هل تدري ما معنى الإيثار؟ هل جربته في موقف؟ إنه أن تفضل أخاك على نفسك؟ هل تذكر إخوانك في السجون والمعتقلات وفي أحلك الأزمات كيف كانوا يستقبلون الأذى بل الموت فداء لإخوانهم، ونسأل الله أن يكونوا قد فازوا بخيري الدنيا والآخرة بفضل الله ورحمته.

وليس فقط للأخوة حقوق بل لها أيضًا قيم وضوابط تمنع من الغيبة والنميمة والتناجي وسوء الظن، وتظلل أدب النصيحة «من نصح أخاه بينه وبينه فقد زانه، ومن نصحه على الملإ فقد شانه» فهل زينت إخوانك أم شنتهم، وكذلك أدب الخلاف الراقي كما يقول الأستاذ البنا رحمه الله: «ولا بأس من تمحيص الحقيقة بالدليل والبرهان في ظل الحب في الله من غير أن يجر ذلك إلى المراء المذموم والتعصب»، هيا نعود لهذا الأصل ونقيس أنفسنا عليه ولا تقل لي فلانًا فعل كذا أو علانًا فعل كذا، فحتى لو عصى الله فيك أطع الله أنت فيه، وقد رأينا أحيانًا عندما ينقص الحب في الله أو تتوارى حقوق الأخوة عن الصورة نرى ظهور المراء المذموم بل والتعصب فعلًا.

والتحذير الرباني هنا مهم لأن معظم النار يبدأ من مستصغر الشرر، والشيطان يئس أن يعبد في أرضنا، ولكنه «رضي بما تحقرون من أعمالكم» رضي بالتحريش بيننا؛ ولذا يدفعنا لكي لا نقول التي أحسن، وبالتالي هذه الكلمات تقلل من مستوى الأخوة وتضعفها ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ﴾ (الإسراء: من الآية 53)، ويتفاعل نزغ الشيطان بقدر استجابتنا له، هل تتصور أن يبدأ الكيد الشيطاني ليس من كلمة بل من رؤيا في المنام فيصل إلى ما وصل إليه ﴿يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ (يوسف: من الآية 5)، دائمًا الشيطان حاضر في كل المشاكل ﴿مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي﴾ (يوسف: من الآية 100).

إنه يغتاظ سواء كان شيطان إنس أو جن أن يرانا صفًا واحدًا ولو حتى في الصلاة فينتهز أي ثغرة في الصف، فقد رآه رسول الله ﷺ رأي العين يخترق الصفوف من خلالها، إنه يغتاظ أن يرانا فرحين متحابين فيريد أن يفرقنا وأن يحزننا ﴿إِنَّمَا النَّجْوَى مِنْ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ (المجادلة: من الآية 10).

ولقد جرب الشيطان هذا السلاح الخطير فيمن هم أفضل منا ولولا فضل الله ورحمته لحقق أهدافه ﴿وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلًا﴾ (النساء: من الآية 83)، ألم يفرق شياطين الإنس والجن، بين الأوس والخزرج أفضل نماذج العطاء من الأنصار؟ ألم يثر غبار الصراع القديم بينهم؟ ألم يهج النفوس حتى بين المهاجرين والأنصار في عدة مواقف، ولكن العودة إلى الأصول والثوابت تعالج الاختلاف في الفروع؛ لأن ما بيننا أغلى مما في الأرض جميعًا، وأحب بعد أن نذوق حلاوة هذه الأخوة أن نوسع دائرتها لتشمل أخوة جميع المسلمين، بل إن نذيق غير المسلمين طعم حلاوة عدل الإسلام وبره بهم الذي افتقدوه من غير الملتزمين بأوامر إسلامهم الحنيف، كما جاء به وطبقه رسول الله ﷺ.