طارق الهاشمي*

في قرية ما يزال اسمها لم تُعرف معانيه؛ لكنها أنبتت علماء معروفين بل مشهورين، وفي بيئة زراعية محدودة الموارد، لكن تأثيرها العلمي غير محدود، لكأنها كانت تبذر - مع محاصيلها - العلم والتقى، وتسقيه من مداد الفطرة والنية الصالحة، فإذا بزرعها يخرج شطأه ويشتد ويستوي على سوقه، وينتشر عبق عطره في الآفاق متجاوزًا «صفط تراب» والمحلة الكبرى والغربية وكل أرض الكنانة، حتى يصل القارات والمحيطات.

قرية مباركة تضم جنبات أرضها رفات صحابي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي من قرى المحلة الكبرى التي تُصَنِّع النسيج المصري الفاخر، كما تُخَرِّج أرباب العلم الباهر، من أمثال الشيخ محمد أبو زهرة، طود العلم الشامخ، ومن قبله الجلال المحلي صاحب التفسير، ثم الإمام البلقيني مفتي الديار المصرية، رحمهم الله تعالى أجمعين.

قرية متواضعة كشأن ابنها، يتنافس ساكنوها في حفظ القرآن وتحفيظه، ويتوج ذلك حفلات ختم القرآن ذات البساطة والبهجة، كما كانت عادة أهل بلادنا العراق، من العرب والكرد والتركمان.

في ظلال أجواء الحب والتعاون والصفاء نشأ الشيخ يوسف في كنف عمه وأبناء عمه، الذين عوضه الله بهم عن فقد والده، وأعانوه في مسيرة الحياة، وفي نيل مبتغاه، حتى أمسى يشار إليه بالبنان، وتفد إليه الركبان، وذلك توفيق من الله الكريم المنان.

إنني حين أكتب عن العلامة الكبير؛ لا أتناول الجانب العلمي الذي أثرى به المكتبة الإسلامية، والذي هو شامل شمول الإسلام لنواحي الحياة الإنسانية في عالمي الروح والمادة، والدنيا والآخرة. ولكن أتحدث عن جوانب تربوية تدعو الحاجة إليها في عالم السلوك والأخلاق.

ويأتي في مقدمة ذلك: التواضع المهيب غير المتكلف، الذي يلمسه المسلم المتابع لأحوال الشيخ ونشاطاته المتنوعة، فيذكر عن نفسه أنه «ابن قرية صغيرة، عشت حياة عادية، من عائلة فقيرة الحال ماليًّا، يعسرها أية مصاريف زائدة عن متطلبات المعيشة، حتى كدت أفقد متابعة الدراسة بمدارس العلم لولا معونة العم، الذي أخذته الشفقة على اليتيم الوحيد». تواضع صادق يزينه أن أصول الأسرة ترجع في نسبها إلى الإمام الحسين رضي الله عنه.

ومن تواضعه مع نفسه أنه كان لا يرغب في كتابة سيرة حياته؛ لأنها - كما يراها - من الحديث عن النفس الذي يشوبه التمجيد والتزكية، فضلًا عن أن الكتابة عن الذات تستلزم الموضوعية والحيادية، وهذا يحتاج إلى نفس انتصرت على هواها، واستعلت على رغباتها، وفنيت عن ذاتها، ثم يقول: «وأنا لا أدّعي أني وصلت إلى هذه الدرجة«.

والشيخ يوسف وإن كان له من المؤلفات في فنون العلم ما يربو على المائتين، لكنه كان متواضعًا مع أهل العلم، يستشهد بأقوالهم معضِّدًا، ويناقش ما أُشكل منها محايدًا، وأحيانًا يرد عليها مفنِّدًا، وكل ذلك مع الأدب الجم والود والاحترام. وكان يثني على العلماء ممن سبقوه أو ممن عاصرهم، ويذكرهم بالتبجيل والإكرام.

ومن المعاني العظيمة في تربية المسلم؛ هي صفة الرجوع إلى الحق، مهما بلغت المكانة وعلت الرتبة، فإن الحق قديم، والعودة إليه فضيلة، وهذا شأن دعاة الإصلاح المخلصين، والعلماء الربانيين.

.....

*  نائب رئيس جمهورية العراق الأسبق

 -المصدر: «العلامة يوسف القرضاوي.. ريادة علمية وفكرية وعطاء دعوي وإصلاحي«