ما كان لأهـل الحركة الإسلامية ومن حولهم من ناشئة الابتداء أن يتخـلـفوا عن السير نحو أفراح الآخرة، ولايرغبوا بأنفسهم عن حاجات الدعوة، ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب، ولا غبار في سبيل الله ، ولا يتكلمون كلمة تغيظ الأحزاب الأرضية ولا ينالون من ملحد نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح ، إن الله لا يضيع أجر المحسنين ؛ ولا ينفقون نـفقة من التعب صغيرة أو من الهول كبيرة ، ولا يجوبون محلة أو مدرسة أو جامعة أو مصنعاً إلا كتب لهم ، ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون .

و كيف يلتـذ داعية براحة وهـم قد لقنوه من أول يوم أن ينشد :

في ضميري دائماً صوت النبي آمراً : جاهد و كابد واتعب

صائحاً : غالب و طالب و ادأب صارخاً : كن أبداً حراً أبي

وكيف يميل إلى استرخاء ، و أصحابه يهتـفون :

نَبني ، ولا نتكل نفني ، ولا ننخذل

لـنا يـد والـعـمـل لـنـا غـد والأمـل

إن حرية الداعية ، والأمل الذي يستيقنه : يدفعان به دفعاً إلى البذل السخي .

عـلـو فـي الـحـيـاة

حرية .... و أمل

حرية تكسر قيود الشهـوات

و أمل بالأجر ، و ثـقة بالنصر

كلمتان خفيفتان على اللسان ، ثـقيلتان في ميزان التصارع العقائدي ، كانتا دوماً في تاريخ التوحيد الطويل ، تأخذان التعب من أجيال الدعاة من النبيين والصديقين والراشدين والتابعين ومن لحقهـم بإحسان على مـر القرون ، فكلهم بالتعب كانوا يفرحون يأبون إلا العلو في الحياة ونحن إن شاء الله بهم لمقتدون .

كان تعبهم يـتمثـل أحياناً بحركة يومية دائبة في الإنذار والتبشيـر ، والتجميع والتبصير ، أو سهـراً على رعاية مصالح المسلمين . و يتمثـل أحياناً في انكباب على التعلم واجتياز المفاوز لحيازة حديث أو كلمات فقه .

ويتجسد في أخرى قتالاً ، وتحفيزاً دائماً لجهاد وعـلو موت . وفي أخرى إشغالاً لـلـفـكـر في التخطيط .

وفي أخرى إشغالاً للفكر في التخطيط .

فإن أخذوا راحة ، واستـلـقـوا على ظهورهم؛ لبث ذهنهم يصطاد الخاطر .

وكل ذلك حكى التاريخ ، ليتعلم الدعاة اليوم .

نـطـق بـالـلـيـل و الـنـهـار

فأول من يطالعنا : الأنبياء عليهم السلام . كان لسانهم ناطقاً بالليل والنهار ، و الإعلان و الإسرار . قال تعالى مخبراً عن نوح عليه السلام : { قال رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً } , ثم قال : { ثم إني دعوتهم جهاراً ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً } .

ونـطـق في أثـنـاء خـطـوات الـهـجـرة

" والواقع أن الداعي إذا كان صادقاً في دعوتـه منشغلاً بها لا يفكـر إلا فيها ولا يتحرك إلا من أجلها ولا يبخل عليها بشيء من جهده ووقته لم يشغله عنها شاغل أبداً حتى في أحرج الساعات وأضيق الحالات وأدق الظروف ، وهكذا كان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ، فعندما هاجر إلى المدينة ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه لقي في طريقه بريدة بن الحصيب الأسلمي في ركب من قومه فيما بين مكة والمدينة ، فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا . وهذ يدل أنه عليه الصلاة والسلام لم يغفل عن الدعوة إلى الله حتى وهـو في طريقه مهاجراً إلى المدينة و القوم يطلبونه "

و نـطـق فـي الـسـجـن

" ويـوسف عليه السلام عندما دخل السجن مظلوماً لم يشغله السجن        وضيقه عن واجب الدعوة إلى الله؛ ولهذا فقد اغتـنم سؤال السجينين عن رؤيا رأياها, فقال لهما قبل أن يجيبهما ما أخبرنا الله به : { يا صاحبي السجن أأرباب متـفرقون خيـر أم الله الواحد القهار } "!

الراشـد يمنع الـنـوم

و قاربهم الصديق أبو بكر رضي الله عنه حتى قال عند وفاته : " والله ما نمت فحلمت ، ولا توهـمت فسهـوت ، وإني لعـلى السبيـل ما زغت "  . يعني أنه قد شغلته حروب الردة و الفتوح وأرهـقه إرساء جهاز الدولة ، حتى أنه ما كان ليستغرق في نومه ليتاح له أن يحلم ، و ظل يزاد بعد النبي صلى الله عليه وسلم في الصديقية ليهبه الله تعالى يـقـظة أثـناء هذا التعب تبعد عنه الوهـم والسهـو .

الترابي ...... !

ويترجم عبد الله بن عباس رضي الله عنه انغماسه في صورة جمع بين التواضع والصبر على مشقة التعلم وجمع الحديث ، حتى أن الريح لتسفي عليه التراب ، يرجو بذلك أن يستـنشق نسمات الجنة ، ويجتاز الصراط بلا حساب .

واسمعه يروي ما كان منه ويـقول : ( أقبلت أسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحديث , فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه وهـو قائـل ، فأتوسد ردائي على بابه ، تـسفي الريح علي التراب ، فيخرج فيقول لي : يابن عم رسول الله ما جاء بك ؟ ألا أرسلـت إلي فآتيك ؟ فأقول : لا ، أنا أحق أن آتيك ، فأسأله عن الحديث ) . ولو شاء أن يوقظوه لأيقظوه لـه مع الفرح ، ولكن الهمم العالية تطرب لصفير الرياح ولـفحات التراب .

هـواية رفـع الأثـقـال

والداعية الـلـبيب يسابق أصحابه لحمل كل ثـقـيـل من الأمور ، فيكون يوم الجمع صاحب الميزان الثـقـيـل ، كما تسابق النخعيون يوم مـعـركة الـقـادسـيـة . قال أحد الصحابة منهم : " أتينا القادسية ، فـقـتـل منا كثير ، و من سائر الناس قـليل ، فسئل عمر عن ذلك فقال : أن النخَع ولوا عِظَم الأمر و حدهم "

وما كان أحد ممن حضر القادسية إلا وأبلى ، و لكن الدعاة إلى الله لهـم هواية التسابق في رفع الأثـقـال .

حـصـن الـتـربـيـة الأسـديـة

والذروة يعلوها التابعي العابد الفقيه المحدث الجليل أبو وائل شقيق بن سلمة الأسدي، نتاج تربية الأربعة الراشدين وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وغيرهم، فإنه عاف التجارات والبيوت و بنى له في الكوفة حصناً صغيراً يسعه هـو وفـرسه وسلاحه فقط ، و بقي طول عمره متـحـفـزاً لـلجهاد ، حتى لم يعد يعرف موازين السوق التي يتعامل بها الناس. تجرد حق التجرد ، فأنتج حق الإنتاج ذرية تجرد تتبعه ، يعلم الدعاة بذلك طريق إنتاج الرجال باستخدام وسائل الايضاح البصرية المجسدة .

أنتج أبو وائل أمثال : سليمان الأعمش ، و منصور بن المعتمر ، و حصين بن عبد الرحمن ، وعمرو بن مرة ، و غيرهم من فحول المحدثين .

إن من لا يفهم التربـيـة يظن أن بناء هذا الحصن من التـكلف و الرياء ، وما هـو كذلك .

ذهــب الـفـراغ ....!

و يموت شقيق الأسدي مع نهاية قرن الخيـر الأول ، فيبادر الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز إلى ضرب الأمثال . تصفـه زوجه فاطمة بنت عبد الملك فتـقول : " كان قد فـرّغ للمسلمين نفسَـه ، ولأمورهم ذهنه ، فكان إذا أمسى مساءً لم يـفـرغ فيه من حوائج يومه : وصل يومه بليلتـه ". يضرب المثـل بذلك لداعية الإسلام إن أراد أن يصدق دعوتـه و يؤدي الأمانة .

صدق الداعية : أن يجدد أطوار عمر فيفرغ نـفسه للمسلمين ، فلا تجـد له حركة دنيوية إلا بمقـدار ما توجبه ضروريات إطعام عياله . و يـفـرغ ذهنه ، فليس فيه إلا تـفكر بمصالح الدعـوة .

ويتعرض أصدقاءٌ قدماء لعمر ، من أصدقائه قبل الخلافة يوم كان فارغاً ، يودون أن تكون لهم معه جلسة يعيدون فيها الذكريات ، فيقولون : " لو تـفرغت لنا " , فيقول : " وأين الفراغ ؟ ذهب الفراغ فلا فراغ إلا عند الله "  ..

يـلـقـنها لمن يدخل الدعوة بعده إذا دعاهم رفاق الأمس إلى قـتـل الأوقات .

مـوفـق يـجــوب بـحـقـيـبـة الـعـلـم راجـلاً

ويستـمر تلامذة أحمد بن حنبل ، وأتباع مذهبه من بعده ، يضعون وسائــل الإيضاح البصرية في الاستخدام التربوي ، فإنهم كما وصفهم الفقيه النحوي ابن عقيل : " غلب عليهم الجد ، وقـل عندهم الهزل "  .

فمن تلامذتـه : الحافظ الإمام الفقيه الزاهد المحدث : إسحق بن منصور المعـروف بالكوسج ، شيخ البخاري ومسلم وغيرهما . كان يسكـن نيسابور بخرسان ، فرحل إلى بغداد ودوّن عن أحمد بن حنبل مسائـل في الفقه كثيرة ، و رجع إلى نيسابور ، ثم إنه : ( بلغه أن أحمد بن حنبل رجع عن بعض تـلـك المسائـل ، فحملها في جراب على كتـفـه ، وسـافـر راجلاً إلى أحمد ، ثم عرض خطوط أحمد على كل مسألة استـفـتـاه عنها فـأقـرّ لـه بها وأعجب به ) ... وأحدنا الآن يجلس على أريكته و بجنبه مسند أحمد مطبوعاً محققاً مجلداً مذهباً يـتـكاسل أن ينظر فيه .

الـحـنـابـلـة يـحـفـظـون الـسـمـت

ويـرسم ابن عقـيـل ، النحوي الفقيه الحنبلي ، صورة الداعية الذي لا تـكون خطراته وسبحات فكره - بل أحلامه إذ ينام - إلا فـي الدعـوة ، ويجلي ذلك بقوله : " إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري ، حتى إذا تـعـطـل لساني عن مذاكرة ومناظرة ، وبصري عن مطالعة : أعملت فكري في حال راحتي وأنا مستطرح "  ... فانظر ، كم ساعة من نهارك و لـيلـك تضيع سدى ؟

وخلفه الشيخ الزاهد الفقيه محمد بن أحمد الدباهي . قالوا : ( لازم العبادة ، والعمل الدائم والجد ، واستغرق أوقاته في الخير .. صَلْبٌ في الدين ، وينصح الإخوان ، وإذا رآه إنسان : عرف الجد في وجهه ) .

وهكذا يجب أن تكون دائماً علامة الدعاة سيماهم في الجد ظاهـرة في وجوههـم ، لا يخطؤها النظر .

ليس لهم نصيب من الهزل والضحك والبطالة .

أصحاب الإمام البنا يجددون

وجدد جيل هذا الـقـرن من الدعاة في مصر تـلـك الصور الرائعة القديمة ، ليبرهنوا أن الإسلام الذي أنتج أولئك لا يزال حياً . يصف الإمام حسن البنا أصحابه فـيـقـول : ( قـد سهـرت عيونهم والناس نيام ، وشغـلت نـفـوسهم و الخليون هجع ، وأكبّ أحدهم على مكتبه من العصر إلى منتصف الليل ، عاملاً مجتهداً ، و مفكراً مجداً ، ولا يزال كذلك طول شهره ، حتى إذا ما انتهى الشهـر جعل مورده مورداً لجماعته ، ونفـقـتــه : نـفـقـة لدعوتـه ، و ماله : خادماً لغايته ، ولسان حاله يقول لبني قومه الغافلين عن تضحيته : { لا أسألكم عليه أجراً إن أجري إلا على الله } )

و عــلــو فــي الـمـمـات .. !

وكما في مصر ، كان من رعيل العراق الأول : أبو صفوان الدباغ صاحب رسالة ( مع الناشئة ) ، الرسالة الصغيرة البسيطة جداً ، الطريفة جداً .

حدثـني الثـقة من أقـرانه ، قال : ( كان مريضاً بالسرطان ، و اشتـد مرضه سنة اثـنتين و خمسين و تسعمائة و ألف ، فـرقـد في المستـشفى أياماً ، و كأنه أحسّ بلحظات حياتـه الأخيرة ، فطـلـب مواجهة قائد الدعوة آنذاك ، فجاءه و معه بعض الدعاة - فِيهِم راوي القصة - فأعلمهم بـقـرب مـوتـه ، وشهد أن لا إله إلا الله ، و قرأ شيئاً من القرآن ، و صافح يد القائد ، و أعلن تجديد بيعته و ثباته على هذه الدعوة و حمّلهم السلام إلى من كان من الدعاة آنذاك و إلى من سيـلـتحق بعد ، ثـم أعـاد الـشهـادة و مـات مـن فـوره ، بـعـد تـجديـد بـيـعـتـه بـقـلـيـل ) .. رحمه الله ... فتأمل هذه منـقبـة لا يرزقها إلا من كان توجهه صادقاً في حياتـه .

وتأمل علو همته . كأنه في قاعة مطار يودع أو على رصيف محطة قطار .

أخ لك سابق غادر الحياة ولـعـلـك لم تولد بعد يحييك ويـبـلغـك السلام ، و يطلب منك الثبات على هـذه الدعوة التي جربها في آخـر لحظات حياته فـوجد لـذة السيـر إلى مـن أنـعـم بـهـا عـلى عباده .

إن في ذلـك لعبرة تـغـنـي الـلـبـيـب عن كثير من الكلام المنمق والبلاغة المتـكـلـفـة .

حقـاً إن الهمم مراتـب ، ولا تـعـلـو هـمة في نهايتها وعند موتها إلا إذا علت في بدايتها .

وقائع وقـصص يمرُّ بها الداعية يأخذ منها الدروس والعبر ، والهُمام من يـقـول : اللهم اجمعنا وإياهم في دار كرامتـك .

وكـذلـك نـقـصص الـقـصـص لـدعـاة الإسـلام لـعـلـهـم يـقـتـدون .

من كتاب "الرقائق" للأستاذ محمد أحمد الراشد.