هي ثلاثة أمور لابد منها لكل أمة تريد النهوض:

أن تتعرف أعداءها لتحذرهم، وأن تهتدى إلى أحبابها لتستخلصهم، وأن تضع المنهج الحازم الحكيم للنهضة لتسير عليه، فلا تلتوى بها الطريق.

والأمة التي لا تعرف أعداءها، تقع في خديعتهم وتقول بعد ضياع الفرصة: "أكلت يوم أكل الثور الأبيض".

والأمة التي لا تعرف أحبابها تضعف قوتها بيدها وتندم حيث لا ينفع الندم.

والأمة التي لا تضع منهج نهضتها تتخبط في سيرها، فلا تتقدم خطوة واحدة، وقد تتأخر خطوات كثيرة.

وهذه الأمة المحبوبة المفداة تسير الآن إلى النهضة سيرًا حثيثًا، وتبدو في كل مظاهر حياتها دلائل الفتوة والحياة، ولكنك ترى إلى جانب ذلك ما يخيفك على مستقبل هذه النهضة من جهلها بأعدائها واستسلامها لهم، وغفلتها عنهم، ومن جهلها بأحبائها، ونفورها منهم، وابتعادها عن الثقة بهم والإخلاص لهم، ومن تراخيها في تحديد نقاط المنهج الذي تسير عليه، وتوضيح الهدف الذي ترمى إليه.

أذكر أن الجامعة الأمريكية أقامت حفلاً في يوم من الأيام، كان من خطبائه الأستاذ جفري الذي أساء إلى الإسلام وعرّض بنبي الإسلام في دروسه وكتبه، فأجاب دعوة الجامعة في هذا الحفل كثير من كبار المصريين وعظمائهم، وفيهم التقى الصالح والمسلم الغيور.

ولا يزال أبو العطاء الجالندهري وعبد الجليل سعد، وأمثالهما من دعاة القاديانية والبهائية وغيرهما عند كثير من الناس مبشرين إسلاميين!

وذكرت إحدى الصحف أن عضوًا في جمعية إسلامية عاملة ظل عضوًا في جمعية الشبان المسيحيين زمنًا طويلاً، وغير ذلك من المثل كثير نحن فيه أحد رجلين إما جاهلون بأعدائنا، وإما ضعفاء حتى عن التحكم في عواطفنا ومسالكنا الشخصية.

وكثير من المصلحين ولا أحب أن أعرض لأسمائهم مرموق من الأمة بعين الحذر والاشتباه، وأقسم أن أحدهم ينفق قوته وقوت أولاده في خدمة أمته، وقد يبيت طاويًا، ويصبح بيته خاويًا وهو بذلك جد سعيد، بل إن أحدهم ليذكر ما وصلت إليه الأمة فيتحدر دمعه كسحب الغمام، ويقضى ليله ساهرًا مفكرًا والناس نيام، ويتفطر فؤاده أسى وأسفًا والخليون هجع، ثم هو بعد ذلك عند الناس نفعي غشاش!

وإنما كان هذا التناقض في الأمة عن أحد أمور منها: الاغترار بالظواهر وسهولة الانخداع والاستسلام فكل من ظهر بمظهر يتفق مع ميولنا وأغراضنا فهو حبيب تجوز علينا حيلته وتنطلي خديعته وإن كان وراء مظهره الداء الدوى، وكل من ظهر بمظهر يتجانف مع أهوائنا فهو عدو يحذر وخصم يهدم وإن كان وراء مظهره الحب الدفين والإخلاص الكمين، فما أحوجنا إلى بعد النظر وعمق التفكير وصحة التقدير وترك الحكم بالظواهر والنفوذ إلى الحقائق، وأن يقوم منا من يميز لنا بين العدو والصديق.

وشيء آخر ذلك هو تأصل خلق المجاملة ولو بغير حق في نفوسنا، فترى أحدنا عظيم الخجل شديد الحياء من أن يقول للمخطئ: أخطأت، أو أن يقابل عدوه بمظهر من مظاهر العداء، بل هو دائمًا يعوّل على الإنكار القلبي وهو أضعف الإيمان، وأخلاق المؤمنين غير ذلك فهم مطالبون بأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، ويقيموا ميزان العدل، ويأطروا أهل الباطل على الحق أطرًا.

ثم إنك إذا قابلت قادة الفكر في هذه الأمة وربابنة النهضة فيها ثم سألت كلاًّ منهم عن رأيه في المسلك الذي يوصل إلى الغاية لرأيت تباينًا عجيبًا وتناقضًا غريبًا، بل إنك لو سألت في ذلك أفراد الناس لأدهشك ما ترى من بعد الشقة بين الآراء والأفكار.

هذه الحيرة في الهدف وذلك الاختلاف في الوسائل تضعف قوة الأمة وتذهب ريحها وتفرق جهودها، بل تجعلها متعاكسة يبطل كل منها الآخر فلا تصل إلى شيء أبدًا.

لهذا كان من أول واجباتنا أن نحدد المنهج تحديدًا دقيقًا مضبوطًا، ثم نزن الناس بميزانه، فكل من أعان عليه فهو حبيب له كل ما للأحبة من مجاملة واحترام، وكل من عطله أو ناوأه فهو عدو له كل ما للعدو من لدد وخصام، وهل الإيمان إلا الحب والبغض؟

المرجع

جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (30)، السنة الأولى، 15ذو القعدة 1352ﻫ/ 1مارس 1934م، ص (1-3).