ونستكمل أبرز المتطلبات التي يحتاجها الدعاة في عملية الاستيعاب عند دعوة الآخرين :

تاسعاً : خدمة الآخرين وقضاء حوائجهم

ومن شروط نجاح الداعية في دعوته والتي تمكنه من النفاذ بدعوته في المجتمع الذي يعيش فيه قيامه بخدمة الآخرين والعمل على قضاء حوائجهم ...

فالدعوة ليست منبراً لعرض الأفكار والنظريات .. والداعية ليس (مذياعاً) يردد الأفكار المجردة فحسب .. بل إن الدعوة والداعية يجب أن ينتقلا نقلة نوعية تجعلهما يعيشان هموم الناس ويحملان بقسط وافر من هذه الهموم ..

وهذا الأمر ليس من قبيل الدعاية والمتاجرة والاستغلال كما هو الشأن لدى الجمعيات التبشيرية وغيرها، وإنما هو مبدأ في صلب المنهج الإسلامي . لا يصلح الإسلام إلا به، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول : (( من بات ولم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم )).

في كثير من الأحيان تحول هموم الناس ومشكلاتهم بينهم وبين التلقي .. وتصبح هذه الهموم والمشكلات سداً منيعاً في وجه ما يردهم من أفكار مجردة ونظريات، ومن هنا كان من واجب الداعية أن يبادر إلى إزالة العوائق من طريق دعوته وإلى فتح القنوات الموصلة لأفكاره إلى قلوب الناس وعقولهم ..

وإن كان صحيحاً أن الداعية لن يسع الناس بماله وجهده وخدماته ولكن ليس من الصحة في شيء اعتباره حائلاً بينه وبين قيامه بما يستطيع؛ فالمطلوب منه ابتداء القيام ببذل ما يستطيع من جهد فإن قصر به جهد عوضه وأكمله بحسن الخلق .. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول ((إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم)).

والإيمان نفسه يجب أن يدفع الداعية إلى أن يحب لغيره ما يحب لنفسه .. وهذا لن يكون إلا بالسعي في شؤونهم وقضاء حوائجهم ..

والأخوة الإسلامية نفسها والتي تقوم على الحب في الله لا يمكن أن تتحقق على أرض الواقع ويتحقق نقلها من حيز الادعاء إلى حيز التطبيق إلا من خلال المساعدة والمساندة والاهتمام والسعة وقضاء الحاجة ..

وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبرأ من إنسان يبيت شبعانا وجاره جائع وهو يعلم فهو أكثر تبرؤا من إنسان يقدر أن يرفع الظلم عن أخيه، أو يقضى حاجته، أو يفرج كربه أو يزيل همه ثم لا يفعل ؟؟

إن الداعية بحق هو الذي يعيش لسواه لا لنفسه ويكون ديدنه الدوران حول مجتمعه وحول المسلمين وليس حول ذاته .. وهو الذي يعمل على توفير الراحة للآخرين ولو على حساب راحته بل إن الداعية بحق هو الذي تسعده سعادة الآخرين وتشقيه شقاوتهم يرتاح إذا ارتاحوا ويطمئن إذا اطمأنوا ويسعد إذا سعدوا ..

فإذا قامت هذه الوشائج بين الداعية وبين الناس تحقق الوصال والاتصال وتحقق التأثر والأثر ونجحت المهمة وآتت الدعوة أكلها بإذن ربها وإن كان غير ذلك لم تكن دعوته ولم يكن داعية ..

وكيما يتمكن الداعية من خدمة الناس وقضاء حوائجهم فإن عليه أن يكون قريباً منهم موصولاً بهم غير مقطوع عنهم كما أن عليه أن يجالسهم ويحادثهم ويستمع إليهم ..

ولقد كان من صفاته صلى الله عليه وسلم إنه كان يجلس إلى الناس ويستمع إليهم حتى وقع الظن لدى البعض وأشاع البعض الآخر من المنافقين أن رسول الله (أذن) يستمع إلى هذا ويصدقه أي تنطلي عليه الأمور فنزل في ذلك قوله تعالى : { وَمِنْهُمُ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلنَّبِىَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ۚ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍۢ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ ۚ وَٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }.

أعرف داعية كثير الجلوس إلى الناس والاستماع إليهم وإلى ما عندهم حتى غدا بيته مقصداً للناس ومرجعاً لهم يبثون فيه همومهم ويستقضون فيه حوائجهم ويحلون عن طريقه مشاكلهم ولقد شق هذا الأمر على بعض أصحاب الداعية واعتقدوا أن في ذلك مضيعة لوقته ومشغلة عن دعوته .. ولم يعلم هؤلاء وأولئك حتى الآن أن هذا هو ميدان الدعوة العملي وأن هذا هو الطريق الذي يصلها بالناس وصلاً مباشراً وإن التوجيه والتوعية الذين يمكن أن يكونا من خلال ذلك أكثر أثراً من التوجيه العام النظري الذي يكون عادة عن طريق الخطبة والمحاضرة والحديث ...

إن من الأسباب الرئيسية لركود الدعوة أو جمودها أو عقمها أحياناً اكتفاء أصحابها بالإطلال على الناس في المناسبات بمكتوبات أو مقولات -

والدعوة الناجحة هي الدعوة الموصولة بقضايا الناس لأنها ستكون عند ذلك موصولة بقلوبهم ومشاعرهم ..

إن الفكرة المجردة تدب فيها الحياة وتصبح قضية متحركة إذا ما تجسدت في الواقع وطرحت على أرض الواقع والفكرة تبقى نظرية وبعيدة ما لم ترتبط أو تحاكى واقعاً معيشاً أو بالتالي تكون معالجة ومتعاملة مع هذا الواقع سلباً أو إيجاباً ..

إن قضايا الناس كثيرة ومتشبعة فمنها الخاص ومنها العام ومنها النفسي ومنها الحسي ومنها التافه ومنها المهم والداعية يجب أن تكون معالجته لها بحسب الأولويات والأهميات ..

والأمر الذي لا مناص منه ولا فائدة بدونه أن يكون ارتباط الحوائج وبذل المساعي بفكر الداعية ودعوته لا بشخصه وأن يبدأ بهذا الربط ويسعى له من أول يوم وإلا كان الاستقطاب حول الشخص وليس حول الفكرة أو الحركة وهذه قضية مهمة يجب التنبه إليها والحذر منها قبل أن تصبح باباً للشيطان ووبالاً على الدعوة والداعية ..

وإذا كان المنهج الإسلامي قد حض عموم المسلمين وعامتهم على القيام بقضاء حوائج الناس فإن دعاة الإسلام معنيون بذلك أكثر ..

-  فمما ورد عن رسول الله في الحض على قضاء الحوائج قوله :

(( المسلم أخو المسلم : لا يظلمه ولا يسلمه من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة )

(( لأن يمشى أحدكم مع أخيه في قضاء حاجته وأشار بإصبعه أفضل من أن يعتكف في مسجدي هذا شهرين )).

((لا يزال الله في حاجة العبد مادام في حاجة أخيه)).

- وفي حضه على السعي والسعاية للمسلمين يقول :

((الساعي على الأرملة والمساكين كالمجاهد في سبيل الله وكالقائم الليل الصائم النهار )).

((من كان وصلة (أي شفيعاً موصلاً)) لأخيه المسلم إلى ذي سلطان في مبلغ بر أو إدخال سرور رفعه الله في الدرجات العلى من الجنة )).

((من لقي أخاه المسلم بما يحب ليسره بذلك سره الله عز وجل يوم القيامة )).

((من مشى في حاجة أخيه حتى يثبتها له أظله الله عز وجل بخمسة وسبعين ألف ملك يصلون له ويدعون له إن كان صباحاً حتى يمسي وإن كان مساء حتى يصبح ولا يرفع قدماً إلا حط الله عنه خطيئة ورفع له بها درجات ))

-  وفي حضه على إدخال السرور إلى قلب المسلم يقول :

((إن من موجبات المغفرة إدخالك السرور إلى أخيك المسلم )).

((أفضل الأعمال إدخال السرور على المؤمن كسوت عورته أو أشبعت جوعته أو قضيت حاجته)).

((من أدخل على أهل بيت من المسلمين سروراً لم يرض الله له ثواباً دون الجنة )).

((أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم تكشف عنه كربة أو تقضي عنه ديناً أو تطرد عنه جوعاً ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إليّ من أن أعتكف في هذا المسجد شهراً، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه يوم القيامة رضا ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يقضيها ثبت الله قدميه يوم تزل الأقدام )).

وهكذا تتكاثر وتكثر التوجيهات النبوية التي تدعو وتحض على قضاء حوائج المسلمين وبذل المساعي الخيرة لهم وإدخال السرور إليهم ودعاة الإسلام أولى الناس جميعاً في الإقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم واتباع سنته ..

وبذلك نأتي إلى ختام الكلام عن الصفات والشروط التي يحتاجها الداعية ليتمكن من نشر دعوته وتأدية رسالته على أكمل وجه وليتمكن من استقطاب الناس حول الإسلام واستيعابهم في دعوته ..

ولننتقل بعد ذلك إلى الاستيعاب الداخلي أي ضمن الدعوة وداخل الحركة والتنظيم.

منقول بتصرف من كتاب "الاستيعاب في حياة الدعوة والداعية " للدكتور فتحي يكن رحمه الله .