بقلم: د. حمدي فتوح والي

لم أكن أظن أن فريضة الحج تحتل في الضمير الأوروبي هذا الهاجس المفزع، وهذا الكابوس المخيف، إلا عندما قرأت رأي بعض حكمائهم في هذه الفريضة عندما كان يحذر قومه، وبني عقيدته من عوامل القوة في دين الإسلام، ويتباحث معهم في اقتراح الأساليب الناجحة للقضاء على تلك العوامل، فكان مما قال (1) المستشرق الأمريكي لوثروب ستودارد:

في الواقع ليس من دين في الدنيا جامع لأبنائه بعضهم مع بعض، موحد لشعورهم، دافع بهم نحو الجامعة العامة، والاستمساك بعروتها كدين الإسلام.. وعلى اختلاف أجناس المسلمين واتساع آفاق بلادهم، لم نسمع قط أن شعبًا قليلاً أو كثيرًا اعتنق الإسلام دينًا ثم ارتدَّ عنه.." إلى أن يقول: "إن الوحدة الإسلامية إنما هي قائمة على ركنين هما أساساها ولا ثالث لهما: الحج إلى بيت الله الحرام، والخلافة، وقد غلب على رأي الكثير من رجال الغرب وهم في هذا الموضوع، فهم ما برحوا يخالون الخلافة لا الحج العامل الأكبر والأشد، الذي بسببه يتشارك المسلمون ميولاً وعواطف، تشاركًا مؤديًّا إلى اعتزاز الوحدة، وازدياد منعتها، وامتدادها، وانتشارها، على أن هذا لمن الوهم الصرف، فالأمر حقًّا على الضد منه.

إن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد فرض الحج على من استطاعه فرضًا مقدسًا؛ ولذلك ما زالت مكة حتى اليوم مجتمعًا يجتمع فيه كل عام أكثر من مائة ألف حاج (2) وافدين من كل رقعة من رقاع العالم الإسلامي، وهناك أمام الكعبة المقدسة في مكة المكرمة، يتعارف المسلمون على اختلاف الألسنة والأجناس، ويتباثون العواطف الدينية، ويتباحثون في الشئون الإسلامية، ثم ينقلبون إلى أوطانهم نائلين لقبًا يعرف صاحبه بالتقوى، فيجله إخوانه المسلمون، ويعلون منزلته بينهم ما دام حيًّا.

فالمقاصد والأغراض السياسية التي ينالها المسلمون على يد الحج الممهد لها السبيل، إنما هي معلومة لا تحتاج إلى كبير إيضاح، بل يكفي أن نقول إن الحج هو المؤتمر الإسلامي السنوي العام، فيه يتباحث الوفود الإسلامية، والنواب المسلمون الطارئون من أقطار المعمور الإسلامي كافةً، في مصالح الإسلام، وفيه يقوم هؤلاء بوضع الخطط ورسم الطرائق للدفاع عن بيضة الإسلام، والذب عن حياض المسلمين، ونشر الدعوة في سبيل الرسالة، وفي هذا المؤتمر العظيم كانت قلوب قادة اليقظة الإسلامية وأبطالها كمحمد بن عبد الوهاب، والسنوسي وجمال الدين الأفغاني تشعر بحلال الواجب الإسلامي المقدس، وتتقد من خطورة المشهد وروعة المحفل غيرة على الإسلام والمسلمين (3).

تلك هي رؤية أعداء الإسلام لفريضة الحج، وهذا هو تقديرهم لخطورتها، ورؤيتهم حق، وتقديرهم صدق، فهذا شأن فريضة الحج إذا هي أديت كما ينبغي أن تؤدى، ونفذت شعائرها كما أراد الله سبحانه وتعالى أن تنفذ.

 

 د. حمدي فتوح والي

وما أشار إليه هذا الرجل من ثمرات، هو أقل ما يجني من ثمرات الحج وبعض من المنافع التي رتَّبها الحق تبارك وتعالى لمَن يُعظِّم شعائر الله، فهل حقًّا يثمر الحج اليوم ثمرته التي شُرع من أجلها، والتي أصابت قلوب أعداء الإسلام بالرعب، وجعلتهم يعقدون المؤتمرات والندوات ليهدموا هذا الأساس المكين، ويقطعوا ذلك الحبل المتين الذي يعتصم به المسلمون؟

والجواب ينهض به لسان الحال، فهو أفصح بكثيرٍ من لسان المقال، فلا أحدَ يُنكر ما طرأ على مشاعر المسلمين من برودة، وما استولى على عقولهم من الجهل، وما أصاب فهمهم للدين من تشويهٍ للحقائق واختلالٍ في التصوير، واضطراب في المفاهيم.. حتى فقدت الشعائر روحها، وغابت عن حياة المسلمين نداوتها وبركتها، بعد أن غامت في أعينهم مقاصدها وغاياتها، فلم تعد تثمر في حياة المسلمين ثمرتها التي شُرعت لها، وفُرضت من أجل تحقيقها.

إن فريضة الحج إذا أُخذت بمفهومها الصحيح، وأُديت مناسكها بروحها الإيمانية الصادقة، أثمرت في حياة المسلمين ما عجزت عنه الخلافة الإسلامية، وما فشلت في تحقيقه الجامعة العربية من الوحدة والقوة والمنعة والتحام الصفوف؛ لأن الفارق بين تجمُّع قادة الأمة في موسم الحج، وتجمعهم في مؤتمرٍ ينعقد هنا وهناك، أن تجمع الحج يمتلك العاطفة الإيمانية، والغيرة الإسلامية، وينطلق من تصورٍ إيماني إلهي مقدس لا تحده حدود الجنس ولا اللغة ولا اللون، وإنما ينصهر الجميع في كيان واحد شعاره: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء: 92)، وفي شعور واحد مصدره: (إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات: 10)، ومن رسالة واحدة يستشعرون قداستها ويقدرون هيبتها، وهي قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) (البقرة: 143).

ويحرصون جميعًا على دوام فخرهم، وعلو ذكرهم، وتحقيق مجدهم وعزهم بقوله تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران: 110).

ولك أن تتصور أمة بحجم الأمة الإسلامية: دينها واحد، وكتابها واحد، ودينها واحد، وتتجه في أرجاء المعمورة إلى قبلة واحدة، وتجتمع وفودهم للحج في بلد واحد، وتلهج ألسنتهم بنشيد رباني واحد، يعلنون فيه صدق العبودية، ولهفة الشوق، وعمق اليقين، وشدة الحنين تلبيةً لنداء الله ربِّ العالمين. قد خضعت قلوبهم وذلَّت جباههم، وتشعثت شعورهم، وأغبرت أقدامهم، وبرغم اختلاف أجناسهم وتباين ألوانهم، فقد جمعتهم لغة القرآن يجأرون بها قائلين: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك" أمة هذا شأنها لماذا لا تجتمع في كيان واحد؟!!

إني أتصور أمة بحجم هذه الأمة، قد اجتمعت لها هذه المقومات وقد حضر قادتها إلى مكة، والتقت وفودهم في بيت الله الحرام حول الكعبة، وقام أكبرهم سنًّا، أو أرجحهم عقلاً، أو أعمقهم دينًا فقرأ عليهم صدر سورة التوبة معلنًا البراءة التي أعلنها خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كان أبو بكر الصديق أميرًا على الحج في السنة التاسعة، وكان معه علي بن أبي طالب، وهناك تُليت سورة براءة، فقد قام علي بن أبي طالب يوم النحر عند الجمرة فأذن في الناس بالذي أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلا عليهم قوله تعالي: (بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ) (التوبة: 1)، حتى بلغ قوله تعالى: (وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) (التوبة: 2).

ألا ما أحوج أمتنا إلى إعلان ولائها لربها وبراءتها من عدوها، وما أشد حاجتها إلى أن تحسن الحب والبغض وأن تعرف مَن تحب، ولماذا تحبه؟ ومن تبغض ولماذا تبغضه حتى يكتمل لها الولاء والبراء فتعود من جديد (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (آل عمران: 110).

ويصدق في أبنائها قول نبيهم صلى الله عليه وسلم: "مَن أحبَّ لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان" (4).

إن أمةً تملك وحيًّا إلهيًّا ربانيًّا خالصًا كالقرآن المجيد، وتوجيهًا نبويًّا كالحديث الشريف، وزادًا أخلاقيًّا كسيرةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورصيدًا من التجربة قدره أكثر من ألف وثلاثمائة عام هي عمر الإسلام إلى سقوط الخلافة..

إن أمةً تملك هذا الرصيد الضخم، وهذا الزاد العظيم، أمة غير معذورة، إذا أخذها الله بالشدائد وسلَّط عليها مَن يسومها سوء العذاب من اليهودية الحاقدة، والدول الغربية الفاجرة المتحالفة مع الشيطان الأمريكي للقضاء على الإسلام، وإبادة أهله.

إن الكعبة بيت الله الحرام ما تزال قائمة، وستظل محفوظةً مصونةً بقوة الله وقدرته، وستظل فريضة الحج تُؤدى، بغير وعي، وبغير روح، حتى تعود الأمة إلى ربها، وتُقدِّر المشاعر قدرها، وتنزلها في قلوبها المنزلة التي أرادها الله لها؛ وذلك لا يتأتى إلا من قلبٍ تقي وإيمان قوي، ووجدان مفعم بحبِّ الله، آنس بحبه، مطمئن بذكره.. (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ) (الحج: 32).

ومن يقرأ سورة الحج يلاحظ أن الحق تبارك وتعالى قد ربط بين تعظيم الشعائر وبين تحقيق المنافع، وجني الثمرات في موضعين، فالأول عند قوله تعالى: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) (الحج: 27)، فقد جاء بعدها قوله تعالى: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) (الحج: 28).

وهذا الموضع الثاني الذي أشرنا إليه في قوله تعالى: (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ) (الحج: 32) حيث جاء بعدها قوله تعالى: (لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى) (الحج: 33)، ولما كانت التقوى هي سبب تعظيم المشاعر، فقد رأينا أن الحج المبرور هو السبيل الأكيد لتحصيل التقوى، عندما يحسن الحاج معايشة المعاني الإيمانية التي تسكبها تلك المناسك في قلبه من عمق الإيمان، وصدق اليقين، ووجل القلب عند ذكر الله، والصبر على طبيعة الرحلة وما يكتنفها من مشقات وعقبات. والاستهانة بالدنيا، وبذل المال خالصًا سهلاً في سبيل الله، فلا يستكثر نفقات الحج ولا يعدها مغرمًا، وإنما ينبغي أن يشعر قلبه أن ما أنفقه لله في تلك الفريضة هو الباقي له من هذه الدنيا: (مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ) (النحل: 96)، وهذه الثمرات الإيمانية هي التقوى التي من أجلها شرعت الفريضة: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ المُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (35)) (الحج).

------------

* الهوامش:

(1) هذا الكلام للوثروب، أما المسلمون فيعتقدون أن الله وحده هو الذي يفرض ويشرع، والرسول r كان مبلغا ومقرا لأوامر الله تعالى.

(2) هذا الرقم كان في بدايات القرن العشرين، أما اليوم فالعدد أكثر من ذلك بكثير.

(3) حاضر العالم الإسلامي- لوثروب ستودارد- ترجمة عجاج نويهض ص 72.

(4) سنن أبى داود ج 5 ص 60 رقم 4681..