التائبون

العابدون

الحامدون

السائحون

الراكعون

الساجدون

الآمرون بالمعروف

الناهون عن المنكر

الحافظون لحدود الله

في طريق مسيرتنا الاسلامية، وفي معامع العمل الإسلامي، يحسن بدعاة الاسلام أن يتفحصوا بين الحين والآخر مواقعهم هم من الالتزام الاسلامي، حتى لا يكونوا معنيين بقول الله تعالى: { أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون}. وحتى لا يحبط عملهم ويكونوا من: { الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا}.

فالخاسرون الحقيقيون في ميزان الجق يوم القيامة هم الذين خسروا أنفسهم ولو ربحوا الدنيا جميعا.. والرابحون الحقيقيون في ميزان الحق يوم القيامة هم الذين ربحوا أنفسهم ولو خسروا الدنيا جميعا.. والمحسنون الحقيقيون في منطق الحق هم الذين أحسنوا لأنفسهم أولا، وأعتقوا رقابهم من النار أولا..

أو لم نسمع إلى قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لما تقولون ما لا تفعلون كبر مقا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} وإلى الحديث النبوي الرهيب:" يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه، فيدور فيها كما يدور الحمار في الرحى فيجتمع اليه أهل النار فيقولون: يا فلان، ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه".

إن مستوى التزام الدعاة _ بالاسلام_ يجب أن يتجاوز بكثير مستوى غيرهم من الناس.. فإن استووا معهم بالالتزام لم يكن لهم الفضل عليهم بالدعوة، بل كان عليهم دونهم وزر الادعاء..

ثم إن على دعاة الاسلام أن يدركوا أن الله تعالى عقد البيعة في قوله تعالى: "إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلْجَنَّةَ ۚ يُقَٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِى ٱلتَّوْرَىٰةِ وَٱلْإِنجِيلِ وَٱلْقُرْءَانِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِۦ مِنَ ٱللَّهِ ۚ فَٱسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ٱلَّذِى بَايَعْتُم بِهِۦ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ "

وان وفاء الدعاة بهذه البيعة مرهون بمدى التزامهم وتحليهم بالصفات الايمانية التي أشارت اليها الآية التي تلي آية البيعة مباشرة:{ التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين}. فما هي هذه الصفات الايمانية؟

التائبون

إن الصفة الأولى التي يجب أن تتحقق في الدعاة هي صفة التوبة.. فالعاملون للإسلام يجب أن يكونوا أشد احتراسا من المعاصي _ كل المعاصي_ منهم من عدوهم، لأن ذنوبهم خوف عليهم من عدوهم.. فإن وقع ما يعتبر معصية، ولا بد أن يقع، كان عليهم أن يبادروا بالتوبة والإنابة إلى الله، ملبين نداء الله عز وجل: { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم }. فالتوبة والإنابة إلى الله صفة أصلية لازمة من صفات المؤمنين: { وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً أَوْ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.

ثم ليعلموا أن نبيهم وقدوتهم محمدا صلى الله عليه وسلم، المؤيد بالوحي، الذي لا ينطق عن الهوى، المعصوم عن الخطأ، الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه، كان لا يفتأ يستغفر ربه ويقول:" يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه، فإني أتوب اليه في اليوم مائة مرة" رواه مسلم، وفي رواية للبخاري يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:" والله إني لأستغفر الله وأتوب اليه في اليوم أكثر من سبعين مرة".

واحتراس الدعاة من المعاصي يجب أن يشمل حتى الذنوب الصغيرة، لأن تعود النفس على التساهل مع الصغائر من شأنه أن يستدرجها للوقوع في الكبائر.. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول:" إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن لا يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه.." وصدق الشاعر حيث يقول:

رأيت الذنوب تميت القلوب  وقد يورث الذل إدمانها

وترك الذنوب حياة القلوب   وخير لنفسك عصيانها

إن هذا يفرض أن تكون للدعاة مع أنفسهم جلسات دائمة، يناقشون فيها الحساب، يقيّمونها ينقدونها، يستخلصون منها ما تداخل فيها، ويمسحون عنها ما ران عليها، ملبين نداء الله في ذلك: "{ ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها} ومنفذين لوصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث يقول:" حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا، وتهيئوا للعرض الأكبر".

ويقول العلماء في التوبة: التوبة واجبة من كل ذنب. فإن كانت المعصية بين العبد وربه سبحانه وتعالى؛ فلها ثلاثة شروط:

الإقلاع، الندم و عدم العودة.

وإن كانت تتعلق بآدمي فشروطها أربعة: الثلاثة الأولى، وأن يبرأ من حق صاحبها.

الحامدون

والحامدون هم الذين تختلج قلوبهم إحساسا وشعورا بنعم الله عليهم، وتلهج ألسنتهم شكرا وثناء، وتندفع أعضاؤهم بذلا وعطاء..

ومن أولى من دعاة الإسلام بالحمد؟! ومن أولى منهم بالشكر؟! وهم الذين نعموا بالهداية، وأصابتهم نعمة الإيمان {ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا} { بل الله يمن عليكم أن هداكم للايمان ان كنتم صادقين}.

إن نعم الله على عباده لا يحصى عددها.. فكل ما في الكون والإنسان والحياة ينطق بأنعمه{ ألم تر كيف حلق الله سبع سموات طباقا، وجعل القمر فيهن نورا، وجعل الشمس سراجا} { إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} الأنعام 94-99.

إن كل هذه النعم وغيرها مما تزدحم به الأكوان، وتتوالد به الحياة، ويعيش به الإنسان من دلائل فضل الله وكرمه على عباده، وإنما يكون رد الفضل وشكر النعمة بتوظيف كل ذلك فيما يرضي المنعم عز وجل امتثالا لأمره تعالى:{ فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون} { لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم ان عذابي لشديد} وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول:" إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها}.

والدعاة إلى الله يجب أن يكون حمدهم لله في السراء والضراء، في الشدة والرخاء؛ حتى يكونوا معنيين بقوله صلى الله عليه وسلم:" عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن".

أما أجر الحامدين فهو عند الله عظيم.. وحسبنا أن نسمع إلى قوله صلى الله عليه وسلم:

" إذا مات ولد العبد، قال الله تعالى لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم. فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون:نعم. فيقول: فماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع. فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد".

وإن من إكرام الله تعالى لعباده أنه امتن عليهم بالنعمة، وضاعف لمن حمده عليها وشكر. فالنعمة ابتداء منه والأجر انتهاء منه { فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون، وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون}.

السائحون

والسياحة هنا سياحة النظر والفكر والنفس في خلق السموات والأرض.. سياحة المؤمنين في أنفسهم، وفيما حولهم من مخلوقات وأكوان وعوالم { إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب، الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض، ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار}.

فما أحوج الدعاة إلى سياحات في عالم الأكوان والفضاء والمجرات، تبصرهم بعظمة الله وقدرته وتحفزهم على طاعته وعبادته..

وما أحوج الدعاة إلى سياحات تاريخية في سير الصالحين وتراجم العظماء من سلفنا الصالح، يخبرون بلاءهم وصبرهم وتضحياتهم؛ ليكون لهم بهم اقتداء..

وما أحوج الدعاة إلى سياحات عبر صراعات الحق مع الباطل، ليروا كيف كانت تتحطم على صخرة الإسلام عروش الطغاة ومكائد الحاقدين. وليعلموا أن دولة الباطل ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة. وصدق الله تعالى حيث يقول: { سيروا في الأرض فانظروا كيف كانت عاقبة المكذبين، هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين، ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}.

والداعية الذي يبصر دقائق خلق الله في جسمه وفي الحياة من حوله، في الماء والهواء والنبات والحيوان، ويرى عظمة خلقه في اختلاف ألسنة الناس وألوانهم وأمزجتهم وأشكالهم يغدو أشد إيمانا بالله وأشد خشية له وتعظيما لقدره وقدرته، وهذا هو معنى قوله تعالى: { إنما يخشى الله من عباده العلماء}.

ولذلك حض القرآن الكريم على السياحة والتفكر والتدبر في كثير من آياته، منها قوله تعالى: { قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة ان الله على كل شيء قدير} { أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون} { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها، فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور} { أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها. ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم} { قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين، ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون}.

الراكعون الساجدون

وهم الحريصون على تمكين صلتهم بالله، وتحسين علاقتهم به.

فهم المحافظون على الصلاة.. قياما وقعودا وعلى جنوبهم.. الدائمون عليها: { الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار}.

والدعاة إلى الله.. وبخاصة في هذا الزمن.. بمسيس الحاجة إلى أن تكون صلتهم بالله تعالى وعلاقتهم به في وزن المسئولية التي يحملون.. وعلى مستوى التحديات التي يواجهون..

وأسلافنا الصالحون إنما كان انتصارهم وانتشار دعوتهم بقوة الاعتصام بالله، وشديد التمسك بحبله، وبعظيم إقبالهم على النوافل في العبادات فضلا عن الفرائض. ولهذا وصفهم الباري عز وجل بأنهم: { تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون} { كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون}.

وهذا ما حمل الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما استبطأ فتح مصر، أن يكتب إلى عمرو بن العاص يسأله مستفسرا يقول:" أما بعد: فقد عجبت لإبطائك عن فتح مصر تقاتلونهم منذ سنتين، وما ذاك إلا لما أحدثتم وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم، وإن الله تبارك وتعالى لا ينصر قوما إلا بصدق نياتهم" منتخب كنز العمال 183.

الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مهمة أساسية من مهمات المؤمنين.. وإذا كان المسلم لا يكون مسلما حقا مالم ينهض بهذا الواجب.. ينهض به في نطاق نفسه وأسرته ومجتمعه، فكيف بالدعاة الذين نصبوا أنفسهم وعاظا ومرشدين وأئمة وقادة؟.

فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تكليف رباني قبل أن يكون تكليفا حركيا. ولقد جاء التكليف الرباني في قوله تعالى: { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} وفي قوله تعالى: { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} { فلولا نفر من كل طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون}.

ثم جاء الأمر النبوي مؤكدا التكليف الرباني بالنهوض بواجب الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي بالحق والتواصي بالصبر في قول الرسول صلى الله عليه وسلم:" من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الايمان، وليس وراء ذلك حبة خردل من إيمان".

ولقد أكد الرسول صلى الله عليه وسلم وشدد على ضرورة القيام بهذا الواجب الذي يعتبر صمام أمان المجتمعات فقال:" والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه،ثم تدعونه فلا يستجاب لكم" وقال:" لا تزال لا اله الا الله تنفع من قالها وتصرف عنهم العذاب والنقمة مالم يستخفوا بها، قيل وما الاستخفاف بها يا رسول الله؟ قال: يظهر العمل بمعصية الله فلا ينكر ولا يغير".

ولقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث له إلى أن من أهم أسباب هلاك الأمم وأقوى معاول الهدم فيها تعطل واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فقال صلى الله عليه وسلم:" إن أول ما دخل النقص على بني اسرائيل، أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول له يا هذا دع ما تصنع فانه لا يحل لك. ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون ذلك أكيله وشريبه وقعيده. فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال: لعن الذين كفروا من بني اسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون" ثم قال:" كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم يلعنكم كما لعنهم" رواه أبو داود.

ثم بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال مثال حي كيف تقع الكارثة حين يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجتمع فقال:" مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة.. فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها. وكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا من على فوقهم فقالوا: لو أننا خرقنا في نصيبنا خرقا، ولم نؤذ من فوقنا. فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعا، وإذا أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعا" رواه البخاري.

وإن على دعاة الاسلام أن يدركوا أن من أهم شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكونوا قدوة لما يدعون الناس اليه.. لما يأمرونهم به.. ولما ينهونهم عنه. فإن خالف الفعل القول بطل العمل، وذهب الأجر، والعياذ بالله تعالى.. ولهذا ندد القرآن الكريم بالذين يقولون مالا يفعلون فقال: { كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون".

ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن مصير أولئك الذين يخاف فعلهم قولهم فقال:" يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه، فيدور فيها كما يدور الحمار في الرحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان: مالك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه".

وفي وصية لعلي ابن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه يوصي الدعاة إلى الله بأن يبدأوا بأنفسهم هم تعليما وتهذيبا قبل أن يقوموا بتعليم الناس وتهذيبهم فقال:" من نصب نفسه للناس إماما فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تهذيبه بسيرته قبل تهذيبه بلسانه، ومعلم نفسه ومهذبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومهذبهم".

والحافظون لحدود الله

أي القائمون على تنفيذ أوامر الله في أنفسهم ومجتمعهم..

وإذا كانت أوامر الله تعالى لا يمكن تنفيذها على أكمل وجه بغير سلطان، أي بغير حكم إسلامي ودولة إسلامية، وجب العمل من أجل ذلك لحفظ حدود الله.

إن حياة الدعاة يجب أن تسير في خطين متوازيين بالنسبة لحفظ حدود الله..

الخط الأول: أن يحفظوا حدود الله في أنفسهم وبيئتهم ما أمكنهم.. وهذا مناط التكليف الشخصي الفردي للمؤمنين والمؤمنات وبه جاءت الآيات الكريمة: { إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون} { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا} وهذا ما حدد أطره الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: "الحلال بيّن والحرام بيّن. وبينهما أمور مشتبهات، لا يعرفهن كثير من الناس. فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام. كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه. ألا  وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه. ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، ألا وهي القلب".

الخط الثاني: أن يبادروا بالعمل لما يحقق حفظ حدود الله بالكلية، أي بإقامة الدولة المسلمة التي تحفظ حدود الله باحتكامها إلى شرعه، وهذا مناط العمل الجماعي الذي لا يسقط وجوبه الرباني عن كاهل المسلمين حتى يتحقق ويحقق أغراضه، أو يقضي أصحابه شهداء..{ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما"}.

من كتاب " قوارب النجاة في حياة الدعاة" للدكتور فتحي يكن -رحمه الله