وائل قنديل

الذي حدث أن هؤلاء الناس عزلوا أنفسهم عن الواقع الفعلي، بالدخول في كبسولةٍ دراميةٍ أطلقوا عليها "الاختيار 3"، وتوهموا أن هذه هي الحياة، وهذا هو الوطن، فوصل بهم الانفصام إلى مرحلة اليقين بأنهم نجحوا في حل كل المشكلات، وحسم كل القضايا.
يشبهون سكان كهف أفلاطون، الذين باتوا يرون الظلال والأشباح هي الحقيقة، بينما الأشياء الحقيقية هي الوهم، ومع انتقالهم إلى العيش في "كهف المسلسل" تركوا كل شيء خارجه مهملًا، أو كأنهم واثقون من التمكن والسيطرة.
في هذه الحالة من السيولة الكاملة اختلطت المعايير، وذابت المعايير، وساحت المفاهيم، فلم يعودوا قادرين على التمييز بين العسكرية، أو الجندية الحقيقية، وعسكرية أهل كهف الدراما، فصار الممثّل على الشاشة هو الجندي، المقاتل الذي يحارب من أجل حماية الوطن في الداخل والخارج، فيحصد الأرباح المادية الخرافية، والمكاسب المعنوية، بإظهاره البطل القومي، بينما الجندي الحقيقي، الذي يعيش هناك فوق الرمال الساخنة، منسيًا لا يذكره أحد، يقف وحده في فوّهة العدوان والإرهاب والإهمال.
هذه الدولة اللاهية، العابثة، استبدلت الذي هو وهم وتمثيل وتزييف، مجسّدًا في مجموعة من الممثلين ذوي الأجور المرتفعة، بالذي هو واقعٌ وفعل وحقيقة، مجسّدًا في جنود وضباط، لا يتذكّرهم أحدٌ إلا حين يسقطون شهداء أمام ضربات الإرهاب الذي يمرح في تلك المساحة الشاسعة بين الواقع والوهم، وبين الجد والعبث، الذي تمارسه سلطة تركت الوطن غارقًا في دمائه وأوجاعه، وذهبت إلى الاستجمام في المنتجعات الدرامية الفاخرة.
المتابع لحالة السعار الدرامي المشتعلة على مدار الأسابيع الماضية يجد أن السلطة اتخذت المسلسل مشروعًا قوميًا وحيدًا، ومعركة مصيرٍ لا صوت يعلو فوق سوطها، حتى تكاد تشعر بأن رأس السلطة ضاق بوظيفته رئيسًا للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، مستعيضًا عنها برئاسة المجلس الأعلى للمسلسل، ومتحدّثًا رسميًا وحيدًا باسمه، وقائدًا لمجلس الدفاع عنه، بكل ما فيه من أكاذيب وأوهام وتهافت فني وسياسي.
حتى بعد فاجعة مقتل الضابط والجنود العشرة، الذين استُشهدوا في ضربةٍ مهينةٍ للشعور الوطني، وقبل ذلك مهينة للعسكرية المصرية في سيناء أول من أمس، انطلقت ألسنة النظام تتحدّث إن هذه الضربة الإرهابية الغادرة جاءت ردًا على نجاح المسلسل، ويصيبك الهمّ والغمّ والقرف حين يكون هذا التحليل البائس على لسان عسكري كبير سابق، كان ذات يوم رئيسًا لهيئة الشؤون المعنوية في القوات المسلحة المصرية .. وكأن مهمة هؤلاء الجنود والضباط الصغار الذي يستشهدون في سيناء هي حماية حدود الوطن من أعداء المسلسل، أو كأن هذا الوطن لم يعُد له أعداء أو خصوم إلا المتربّصون بالمسلسل.
ضع نفسك مكان مجندٍ أو عسكريٍّ يجد نفسه محاصرًا من الجهات الأربع بقوات الدفاع عن المسلسل، المنتشرة في كل الصحف والمحطّات الإذاعية والتلفزيونية، تردد خطابًا واحدًا عن عظمة جيش مصر الدرامي، وكفاءته في خوض معركة المسلسل الذي يتحدث عن نبوغ الجنرال الذي لم يدخل حربًا في حياته.
تخيّل أن هذا الجندي، المنسي في صحراء سيناء، أو أحدًا من أفراد عائلته التي تكابد القلق عليه كلما عاد إلى الجبهة، يفتح جريدة أو يشاهد محطة تلفزيون، فيجد شخصًا يشتغل صاحب مطعم سياحي في المساء والسهرة، ونقيبًا للممثلين في الصباح، يعلن أن دور الممثلين لا يقلّ عن دور الجندي على الجبهة.
مرّة أخرى، وكما دوّنت منذ ست سنوات، وعقب حادثٍ مشابهٍ ومتكرّر في سيناء كانوا يبرّرونه بأن الإرهابيين يتسلّلون من الأنفاق إلى سيناء، أن النفق الأخطر والأكثر كارثيةً هو هذا الخواء المخيف في رأس النظام، والذي يجعله يقتنع بأن الإدارة بالدجل وصناعة الأوهام يمكن أن تستمرّ مدى الحياة.
النفق الحقيقي موجودٌ في هذا الدماغ الذي يتوهم أن من ينتصر في مسلسل هو بالفعل منتصرٌ على أرض الواقع.

المصدر: العربي الجديد
جرّبوا أن تمنحوا العسكرية الحقيقية نصف الاهتمام الممنوح لمليشيات بيتر ميمي الدرامية.