د. يوسف القرضاوي

بعد حثِّ الإسلام العقل على التحرر من كل ما يثبّطه ويحجزه عن العمل والتدبر والتفكر، يدعو الإسلام بقوة إلى النظر فى هذا الكون الفسيح من حولنا، فإنما خلقه الله لنا؛ لنتأمله، ونعتبر به، وندرسه، ونستفيد منه.

لم يخلق الله هذا العالم لحاجته إليه، كلا، فهو سبحانه غنى عن العالمين، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِى الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} (فاطر:15-17)، ومستحيل أن يحتاج الخالق إلى مَنْ يخلقه، أو ما يخلقه، أو يحتاج الرزّاق إلى مَن يرزقه، وما يرزقه، أو يحتاج المدبّر إلى من يدبره وما يدبره.

كل هذه الكائنات المُحْدَثة المخلوقة هى المحتاجة حاجة دائمة إلى الله تعالى، فى بدايتها، وفى بنائها، وفى استمرارها، وفى إتمام خلقها، وإعطائها ما تفتقر إليه من الإعداد والإمداد، كما قال سبحانه، حين سأل فرعون موسى: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (طه:49-50).

وبهذه العناية الربانية، التى تطلع على ما يفتقر إليه كل شىء، حى أو غير حى، ناطقٍ أو غير ناطق، عاقلٍ أو غير عاقل، كلٌ فى حاجة إليه، ليقوم بأمره، ويبلغ غايته،ويتطلع على ما يُراد منه، فيُمدّه ربُّه بكل حاجاته، من غير فقر ولا نقص، ولا شحّ ولا بُخلٍ، كما قال تعالى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّى إِذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا} (الإسراء:100).

هذا الكون الكبير الواسع بأرضه وسماواته، بإنسانه وحيوانه المستأنس، وحيوانه الوحشى، وزواحفه وطيوره، وحشراته ونباتاته، وأشجاره بفصائلها المُتعددة، التى لا نُحصيها عدًّا بأنواعها، والأسماك والحيتان، والحيوانات المائية، والماء الذى يكوِّن حوالى ثلاثة أرباع الأرض التى نعيش عليها، والسماوات السبع من فوقنا، التى لا نعرف عنها إلا القليل، وكأن معظمه من السماء الدنيا، أى القريبة من الأرض ومنا، ونرى شمسها وقمرها ونجومَها، وكل ما يحيط بها من نجوم ومجموعات ومجراتٍ، لا يعلم عددها ولا مقاديرها ولا آثارَها إلا الله العلى الكبير.

هذا فى الكون الذى يمكن أن يُبصَر، وهناك كوْن لا يُبصر، وهذا أوسع وأكبر وأعظمُ من هذا الكون المنظور، كما قال القرآن: {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ} (الحاقة:38-39).

هذا الكون فيه مخلوقات غيرُ مرئية، كالملائكة الذين بثّهم الله تعالى فى هذا الكون، فهم مع الإنسان، ولكنَّه لا يراهم، ولا يحس بهم: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} (الانفطار:10-12).

{أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} (الزخرف:80).

{إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق:17-18).

{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} (الأنعام:61).

{قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِى وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} (السجدة:11).

{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا أُولِى أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِى الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (فاطر:1).

وقال تعالى عن القرآن: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِى مُبِينٍ} (الشعراء:193-195).

{تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} (القدْر:4).

وقال عز وجل: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} (البقرة:98).

وقال تعالى عن أهل الحقِّ: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (النحل:32).

وقال سبحانه: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} (الزمر:73).

وقال تعالى عن النار وأهلها: {عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (التحريم:6).

{وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} (الزخرف:77).

والملائكة يبعثهم الله فى المعارك بين الإسلامِ والكفر، لتأييد المؤمنين وتثبيتهم، وإلقاءِ الرعبِ فى قلوب الكافرين: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّى مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * إِذْ يُغَشِّيكُمُ  النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ * إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّى مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (الأنفال:9-13).

هذا الكون الكبير الذى نعيش فى جزء صغير صغير صغير منه، يطالبنا القرآن أن ننظر فيه، ونتأمل بكل ما لدينا من طاقات، ونعم وإمكانات، وهبها الله تعالى لنا، كما قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِى جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا اللَّهُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (النحل:78-79).

فالإنسان خُلِق جاهلا، ولكنّه مزوّد بكل الأدوات والوسائل اللازمة للمعرفة، فوهبه اللهُ السمعَ قبل كل الحواس، ثم البصر، ثم الفؤادَ، وهو العقل، وهذه هى نوافذ الإنسان على الكون الكبير من حوله، عليه أن يوظفها فى معرفته، وقبل ذلك فى معرفة نفسه: ما هو؟ ومن هو؟ فلا يصوّر نفسَه حيوانا، أو كالحيوان، قردًا أو غيرَ قرد، ولا يتصور نفسَه إلهًا أو كالإله، وهو مخلوق من نُطفة، ومن ماء مهين، كما قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} (الطور:35-36).

على الإنسان المستخلف فى هذه الأرض: أن ينظر فى هذا الكون الكبير، الذى يُحيط به، فهو عن يمينه وعن شماله، ومن بين يديه ومن خلفه، ومن فوقه ومن تحته، وقد دعاه ربُّه وخالقُه، وخالق الكون من قبله، أن ينظر فيه، ليس مجرد نظر العين، ولكنَّ المرادَ نظرُ العقل المفكر، الذى يتأمّل ويتدبّر، ويقارن ويوازن، ويراجع ويشاور، فقد عَلِمنا من مُكتشفات العلم الحديث: أنّ كلَّ جزئية فى هذا الكون إنْ فكّرتَ فيها وتأملتها، وجدتَ فيها آلاف الجزئيات الأخرى المبثوثة فيها.

فلو فكرتَ فى الإنسان - فى كل إنسان - لوجدت ألوفا من البحوث، لا تكاد تتناهى أمامك، يبحثها كل امرئ من جهة تخصصه أو اهتمامه، فالعالم البيولوجى يرى منه ما لا يراه العالم الفيزيائى، أو العالم الكيميائى، أو العالم الجيولوجى، أو العالم الفلكى، أو العالم البحرى، أو العالم الرياضى أو العالم الديني.

لو نظرتَ فى بداية خلق الإنسان، وهى النُّطفة التى خُلِق منها الإنسان: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} (يس:77).

{أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِى يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِى الْمَوْتَى} (القيامة:37-40).

{أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ* فَجَعَلْنَاهُ فِى قَرَارٍ مَكِينٍ* إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ* وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}  (المرسلات:20-24).

{فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ* يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ* إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} (الطارق:5-8).

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِى رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِى الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (الحج:5).

{إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} (الإنسان:2).

إنَّ الإنسانَ إذا نظر فى نطفته الأصليّة، فى هذا الماء المهين، أو الماء الدافق، الذى يخرج من بين الصلب والترائب، وجد فى هذه القطرات التى تنزل من الرجل ملايين، أو مئات الملايين من الحيوانات المنويّة، التى يصلح كلٌ منها ليُخلق منه إنسانٌ كامل، فانظر فى هذه الوفرة الهائلة التى وفّرها الله لكل إنسان، وهو يحتاج إلى واحد منها.

وهو ييسر لها بسرعةٍ الوصولَ إلى الصنف الآخر الذى تفرزه الأنثى، وهو: "البويضة" المهيّأة، أو هذه العروس المهيّأة لهذا "المُعْرس"، كما يقول الخليجيون، ليُزفَّ إليها، ليقوم بينهما حياة مشتركة، ينقسمان فيها إلى ما شاء الله، وتكوّن مشروعَ الإنسانِ المرتقب، ويتعلق هذا الكائن الصغير بجدار الرحم الذى سمّاه القرآن: "القرار المكين"، ليظلّ فى بطن الأمّ، يتغذَّى من دمها، ويحيا بحياتها، ويعيش بها تسعة أشهر، حتى يأتى أوان الولادة، فيخرج إلى الفضاء الفسيح، ليسمعه من حوله وهو يبكى ويصيح.

يقول الشاعر:

لِمَا تُؤذِنُ الدنيا به مِنْ صرُوفها ** يكونُ بكاءُ الطفلِ ساعةَ يُولَدُ

وإلا فما يـبكيه منهـا؟ وإنـّها ** لأفْسَحُ ممَّا كان فيه وأرْغَـدُ!

إن الذين فكروا فى هذا النطفة أو القطرة من المنى، تحدثوا كثيرا، وفصّلوا كثيرا فى عظمة خلق الله تعالى، وكيف يحتوى هذا الكيان الصغير كلَّ مواريث الأبوين، والأجداد، والأسرة، والقبيلة، والفصيلة، والجنس البشرى، كيف يرث اللون والجنس، والطول والعرض، والبياض والسواد، وما بينهما، ولون العين ولون الشعر، والذكاء والغباء، والوجدان والانفعال، وأشياء كثيرة أخرى، تحكمها قوانين وقواعد هائلة، كما دلت على ذلك "البصمة الوراثية"، وغيرها من قوانين الوراثة.

الكلام يطول حول هذه النُّطفة، وما أودع الله فيها، وما يكتشفه نظر الباحث، أو أنظار الباحثين فيها، وكل يوم يكتشفون لنا جديدا غير ما كان من قبل، حتى اكتشفوا لنا أخيرا ما سموه "الجينوم البشري". فإذا سعينا وتقدمنا لننظر فى هيئة الإنسان وأعضائه الظاهرة، وأعضائه الباطنة، وحواسه الخمسة، وربما زادت على الخمسة.

ولو بحثنا عن القوى الباطنية للإنسان، من العقل والروح والضمير، لوجدنا هناك مساحات رحبة، لبحث المفكرين، ومجالات فسيحة، لتأملات المتأمّلين، وفرصا واسعة لمختبرات العالمين، ثم إذا تركنا الإنسان - وهو مجال بحث واسع- وجدنا الكونَ من حوله، كلَّه مجالا مفتوحا لفكر الإنسان، ونظر الإنسان، كما علمنا القرآن.

يقول القرآن: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِى وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} (ق:6-11).

{إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِى الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (آل عمران:190-191).

{إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (البقرة:164).

وأحيانا يطلب القرآن النظر فى سَيْر الخلْقِ وسُنَنِه، وسَيْر الأمم وتطوراتها، وما أنزل الله بها من عقوبات وآيات، كما قال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِى الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (العنكبوت:20)، فهو ينظر إلى ما يستطيع أن يصل إليه من معرفة تُتاح له عن بدء الخلق، وما ينتهى إليه من النشأة الآخرة.

{قُلْ سِيرُوا فِى الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (الأنعام:11).

{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِى الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (آل عمران:137).

{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِى مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَى حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف:135).

{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِى الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} (يونس:101).

هذه الدعوات المتكررة الصادرة من رب السماوات والأرض، إلى الإنسان آمرةً له أن ينظر فى هذه المخلوقات الكبرى، التى تُحيط به، وإلى كل ما خلق الله من شيء، فليس هناك شيء محظور عليه أن يتعامل معه، وينظر فيه بعقله ومواهبه ومعارفه، على أن يكون مرهونا بإمكانات عقله، غير ملزم بما وصل إليه غيرُه ما لم يقتنع به.

إن هذا النظر الذى أمر الله تعالى به المؤمنين فى القرآن، هو النظر فى هذا الكون، وفى أنفسنا، باعتبارنا جزءا من هذا الكون، كما أشار إلى ذلك القرآن بصراحة فى قوله تعالى: {وَفِى الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِى أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} (الذاريات:20-21)، وقال عز وجل: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِى الآفَاقِ وَفِى أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (فصلت:53).

هذا النظر أعْتَبِرُه من الفروض الدينيّة، التى أوجبها القرآنُ على كل من آمن به، وكل من دخل فى الإسلام؛ لأنه جاء بصِيَغٍ كلها تدل على الإيجاب والفرضيّة، فهى من حيث الثبوت قطعية متواترة، ككل آيات القرآن، وهى من حيث الدلالة قاطعة كذلك، فهى آمرة كقوله: قُلِ انْظُرُوا ، قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا ، قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، أو محرضة بطريقة أخرى من طرق الخطاب، وهى أشدُّ من الأمر المباشر، كما فى قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِى مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} (الأعراف:185).

وهذه كلها تجعل هذه النصوص من "القطعيات"، التى لها فى الدين مقام مكين، من وجوب الانصياع لها، وعدم التهاون فيها، فهى لا تسمح بذلك، إلا لمن يريد أن يمْرُقَ من الإسلام كما يمْرق السهمُ من الرميّة.

.....

- المصدر: "موقف الإسلام من العقل والعلم" لفضيلة الشيخ.