يواصل العلامة الدكتور يوسف القرضاوي الحديث عن أولويات الحركة الإسلامية  في خصائص فكر الحركة فيقول:

من أسباب الخطأ والاضطراب في الفقه السياسي: الخلط بين السنة والسيرة في الاحتجاج؛ فالسنة مصدر للتشريع والتوجيه في الإسلام بجوار القرآن الكريم؛ والقرآن هو الأصل والأساس، والسنة هي البيان والتفسير والتطبيق.

ولكن الخطأ الذي يقع فيه البعض هنا أنه يضع السيرة موضع السنة ويستدل بأحداث السيرة النبوية على الإلزام كما يستدل بالسنة والقرآن.

والسيرة ليست مرادفة للسنة؛ فمن السيرة ما لا يدخل في التشريع ولا صلة له به؛ ولهذا لم يدخل الأصوليون السيرة في تعريف السنة بل قالوا: السنة ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير ولم يجعلوا منها السيرة.

أما المحدثون فهم الذين أضافوا إلى القول والفعل والتقرير الوصف الخَلْقي والخُلقي والسيرة؛ لأنهم يجمعون كل ما يتعلق به مما له علاقة بالتشريع وما لا علاقة له به؛ فيروون من حياته ما قبل البعثة من المولد والرضاع والنشأة والشباب والزواج... إلخ ويروون أوصافه الخِلْقية والخُلُقية ويروون كل ما يتصل بحياته ووفاته.

المهم أن بعض الفصائل الإسلامية تتخذ من السيرة دليلاً مطلقًا على الأحكام وتعتبرها ملزمة لكل المسلمين.

وهنا ملاحظتان مهمتان:

الأولى: أن في السيرة كثيرًا من الوقائع والأحداث مروية بغير السند المتصل الصحيح؛ فقد كانوا يتساهلون في رواية السيرة ما لا يتساهلون في رواية الأحاديث المتعلقة بالأحكام وأمور الحلال والحرام.

والثانية: أن السيرة تمثل الجانب العملي من حياة النبي؛ أي تمثل قسم الفعل من السنة غالبًا.

والفعل لا يدل على الوجوب والإلزام وحده إنما يدل على الجواز فقط، أما الوجوب فلا بد له من دليل آخر.

صحيح أننا مطالبون بالاقتداء بسنة النبي صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} (الأحزاب:21)، ولكن الآية تدل على استحباب التأسي والاقتداء به لا على وجوبه.

على أن اتخاذ الأسوة من سيرته إنما يكون في الأخلاق والقيم والمواقف العامة لا في المواقف التفصيلية.

فليس من الضروري أن نقتدي به بالبدء بالدعوة سرًا إذا كان الجهر ميسورًا ومأذونا به.

وليس من الضروري أن نهاجر كما هاجر إذا لم يكن لدينا ضرورة للهجرة بأن كنا آمنين في أوطاننا متمكنين من تبليغ دعوتنا.

ولهذا لم تعد الهجرة إلى المدينة فرضًا على كل مسلم بعد فتح مكة كما كانت من قبل، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا" (متفق عليه وهو مروي عن عدد من الصحابة)؛ أي لا هجرة إلى المدينة وإن بقيت الهجرة من كل أرض لا يتمكن المسلم من إقامة دينه فيها.

وليس من الضروري أن نطلب النصرة من أصحاب السلطة والقوة كما طلبها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من بعض القبائل فاستجاب له الأوس والخزرج؛ إذ لم يعد ذلك أسلوبًا مجديًا في عصرنا.

وليس من الضروري أن نظل ثلاثة عشر عامًا نغرس العقيدة وندعو إليها؛ لأننا اليوم نعيش بين مسلمين يؤمنون بأن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم فليسوا محتاجين إلى أن نعلمهم العقيدة مثل هذه المدة.

وإذا اهتممنا اليوم بالعدالة الاجتماعية أو الشورى والحرية أو بالقدس والمسجد الأقصى أو بالجهاد ضد أعداء الأمة فليس ذلك مخالفة للهدي النبوي الذي لم يهتم بهذه الأمور إلا في المدينة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في مكة في مجتمع جاهلي مشرك بالله مكذب برسالة محمد صلى الله عليه وسلم فكانت المعركة الأولى معه حول التوحيد والرسالة.

بخلاف مجتمعنا اليوم فقد آمن بالله ربًا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً، وإن كان فيه ما فيه من المعصية والانحراف عن شرع الله.