يواصل العلامة الدكتور يوسف القرضاوي الحديث عن أولويات الحركة الإسلامية  في خصائص فكر الحركة فيقول:

ظواهر فكرية سلبية
هناك ظواهر فكرية لا تخفى على الدارس المتأمل في محيط الحركة الإسلامية، ولا سيما في المجال السياسي.

هناك (فكر المحنة) الذي لازال له تأثيره على كثير من كتاب الحركة الإسلامية وموجهيها، ولازال يصبغ ـ بقدر أو بآخر ـ كثيرا من الإنتاج الدعوي والتربوي، وكذلك التوجه السياسي.

ولا بد للحركة أن تتجاوز فكر المحنة، وتتعامل مع الناس والحياة والعالم، من خلال (فكر العافية).

هناك (الفكر الظاهري) الذي يقف عند حرفية النصوص، ولا ينفذ إلى مقاصد الشرع، ولا يهتم بمصالح الخلق. وقد أكد المحققون أن الأحكام لم تشرع إلا لتحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد. وأي حكم خرج من المصلحة إلى المفسدة، أو من الحكمة إلى العبث، فليس من الشريعة في شيء، وإن أدخل فيها بسوء التأويل كما قال الإمام ابن القيم.

وقد يمكن قبول هذا الفكر في بعض الشعائر والأحكام المتعلقة بالأفراد، ولكنه لا يقبل بحال في مجال (السياسة الشرعية) التي ينبغي أن تقوم على السعة والمرونة ومراعاة تغير الزمان والمكان والإنسان.

هناك (الفكر الخارجي) الذي يتسم أصحابه بالإخلاص والشجاعة، ولكنه محدود الأفق، ضيق النظرة إلى الدين والحياة، عنيف في التعامل مع الآخرين، عمدته الرفض والاتهام وسوء الظن، حتى للإسلاميين أنفسهم، مع إعجاب بالرأي، وهو أحد المهلكات.

هناك (الفكر التقليدي) الذي يبحث عن حل كل معضلة فكرية أو سياسية أو تشريعية، في كتب المتأخرين، من علماء مذهبه، لا يخرج من إسارها، ولا ينظر إلى الشريعة بمفهومها الرحب، بمجموع مدارسها ومذاهبها، كما لا ينظر إلى العصر وتياراته ومشكلاته، فهو بنظرته هذه يحجر ما وسع الله، ويعسر ما يسر الدين.

ولن يكون للحركة الإسلامية فقه سياسي راشد، إلا إذا تجاوزت هذه الظواهر الفكرية السلبية ورشحاتها على رجالها، ينضح فيها هذا الفقه الجديد الذي نركز عليه: فقه السنن، وفقه المقاصد، وفقه الموازنات، وفقه الأولويات.

خلل في الفقه السياسي ينبغي علاجه
ولابد لها أن تعمل على علاج هذا الخلل فيما نقرؤه ونسمعه من مفاهيم غريبة، وأحكام عجيبة، ومناهج في الاستدلال أغرب وأعجب!

وأكثر ما يكون ذلك وأوضح في الفكر السياسي، والفقه السياسي، وهو فقه لم يأخذ حقه من البحث والتعمق قديما، كما أخذ فقه العبادات والمعاملات والأنكحة ونحوها.

وهو كذلك اليوم يشوبه كثير من الغبش والتباس المفاهيم، واضطراب الأحكام، وتفاوتها في أذهان العاملين للإسلام تفاوتا يجعل المسافة بين بعضها وبعض، كما بين المشرق والمغرب.

لقد رأينا من يعتبر الشورى معلمة لا ملزمة، ومن يمنح رئيس الدولة حق إعلان الحرب وعقد المعاهدات دون الرجوع إلى ممثلي الأمة.. ومن يرى الديمقراطية كفرا أو سبيلا إلى الكفر!

ومن يرى أن المرأة لا مكان لها في سياسة الأمة، وأن مكانها البيت لا تخرج منه إلا إلى بيت الزوج أو القبر! وأن ليس لها حق التصويت والشهادة في أية انتخابات؟ أن ترشح نفسها لمجلس بلدي أو نيابي.

ومن يرى أن التعدد أو التعددية ـ كما يقال اليوم ـ أمر يرفضه الإسلام، ولا يجوز إنشاء أحزاب أو جماعات أو هيئات لها رؤية أو رأي سياسي داخل الدولة المسلمة.

لقد وقف شعر رأسي حين أطلعني بعض الأخوة على رسالة كتبها بعض المتحمسين من الدعاة عنوانها: "القول السديد في أن دخول المجلس (النيابي) ينافي التوحيد" وهو خلط عجيب يدخل مسائل العمل في مسائل العقيدة، ومسائل العمل تدور بين الصواب والخطأ لا بين الإيمان والكفر، فهي من السياسة الشرعية التي يؤجر المجتهد فيها مرتين إن أصاب ومرة واحدة إن أخطأه التوفيق.

وهو نفس ما وقع فيه الخوارج قديما، حين كفروا الإمام عليا كرم الله وجهه، بأمر عملي يتعلق بالسياسة والاجتهاد فيها، فجعلوها قضية عقدية، وقالوا: حكم الرجال في دين الله ولا حكم إلا لله! وما أبلغ رده عليهم بكلمته التاريخية إذ قال: كلمة حق يراد بها باطل!

حوار مهم في الفقه السياسي
وكم هالني أن أجد بين علماء أفغانستان ـ أولئك الأبطال الذين يقودون الجهاد بحماس وإخلاص وثبات ـ من يرى أن تعليم المرأة حرام، وأن اللجوء إلى الانتخابات لاختيار ممثلي الشعب، أو رئيس الدولة حرام، وأن تحديد مدة رئيس الدولة حرام، وأن القول بأن الشورى ملزمة حرام.

وقد ناقشني بعض الأخوة المقتنعين بهذه الأفكار قائلا: إن الذي دعا إلى فشل الحركات الإسلامية في العصر الحديث هو إيمانها بهذه الأفكار التي يعتقد هو أنها أفكار غير إسلامية، وأننا لا يمكن أن ننجح إذا اتخذنا إلى الغايات الإسلامية وسائل غير إسلامية!

قلت للأخ الذي ناقشني: ما الذي جعل تحديد مدة رئاسة الدولة حراما إذا رأى فيه المسلمون مصلحتهم؟

قال: إنه مخالف لفعل المسلمين منذ عهد الخليفة الأول أبي بكر رضي الله عنه، فلم يحدث أن اختير أحد منهم لمدة مؤقتة، بل بقي في الإمارة مدى الحياة وخصوصا الخلفاء الراشدين الذين أمرنا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أن نتبع سنتهم، ونعض عليها بالنواجذ كما رواه أصحاب السنن عن العرباض بن سارية عنه عليه الصلاة والسلام. وقد حذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث من محدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة، وهذا من المحدثات المبتدعة.

قلت له: إننا قبل أن نؤمر باتباع سنة الخلفاء الراشدين أمرنا أن نتبع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، التي هي الأصل الثاني في الإسلام، وهي ـ مع كتاب الله ـ المرجع عند التنازع والاختلاف، وفي حديث العرباض المذكور "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين..الخ" فقدم سنته عليه الصلاة والسلام.

وسنة الرسول الكريم كما هو معلوم: قول وفعل وتقرير، وأفعاله خاصة لا تفيد الوجوب بذاتها، بل تدل على مجرد المشروعية والإباحة، ما لم ينضم إليها دليل آخر، يدل على الاستحباب أو الوجوب.

ولهذا رأينا من الخلفاء الراشدين من يخالف سنته الفعلية ـ عليه الصلاة والسلام ـ إذا رأى مصلحة التي روعيت في عهد النبوة قد تغيرت.

ومن ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم قسم خيبر بعد فتحها بين المقاتلين ولم يفعل ذلك عمر رضي الله عنه، عندما فتح سواد العراق، حيث رأى أن الأصلح في زمنه غير ذلك، وجادله كثير من الصحابة في ذلك، ولا سيما أن رأي عمر يخالف ظاهر عموم آية سورة الأنفال: (واعلموا انما غنمتم من شيء فإن لله خمسه).

وقال عمر في ذلك: رأيت أمرا يسع أول الناس وآخرهم: "وقال: أتريدون أن يأتي آخر الناس وليس لهم شيء؟"!

أي أنه راعى مصلحة الأجيال القادمة، وهذا النوع من التكامل الرائع بين أجيال الأمة بحيث لا يستمتع جيل على حساب جيل أو أجيال لاحقة، واستند عمر في ذلك إلى آيات سورة الحشر التي أشارت إلى قسمة الفيء بين المهاجرين والأنصار "والذين جاءوا من بعدهم".

وعلل الإمام ابن قدامة الاختلاف بين صنيع عمر وصنيع الرسول الكريم، بأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ما هو الأصلح في زمنه، وعمر فعل ما هو الأصلح في زمنه.

وإذا لم يكن فعل الرسول ـ وهو جزء من سنته ـ ملزما لمن بعده ووسع الصحابة أن يخالفوه لاعتبارات رأوها، فكيف يكون فعل المسلمين من بعده ملزما لمن بعدهم؟

إن مجرد السوابق العملية لا تحمل صفة الإلزام التشريعي، كل ما في الأمر: أنها كانت هي المناسبة لمكانها، وزمانها وحالها، فإذا تغيرت هذه الأشياء تغير ما بني عليها.

فموضع القدوة فيها والعبرة منها: أن ننتقي من الأنظمة والتشريعات ما يصلح لزماننا وبيئاتنا وأحوالنا في إطار النصوص العامة والمقاصد الكلية للشريعة الإسلامية الرحبة.

أما الاحتجاج بالإجماع العملي من المسلمين على عدم تأقيت مدة الأمير، ففي هذا الاحتجاج شيء من المغالطة.

فالإجماع الذي حصل يفيد شرعية استمرار مدة الأمير مدى الحياة وهذا لا نزاع فيه. أما الأمر الآخر وهو التحديد أو التأقيت، فلم يبحثوا فيه، بل هو مسكوت عنه، وقد قالوا: لا ينسب إلى ساكت قول، فلا يجوز أن ينسب إليهم في هذه القضية إثبات ولا نفي.

وأما القول بأن تحديد مدة الأمير أو رئيس الدولة، إحداث أمر مبتدع في الإسلام، ومن الثابت بالنص والإجماع أن كل بدعة ضلالة.

فإن المقدمة الثانية مسلمة، وهي أن كل بدعة ضلالة ولكن لا بد من إثبات المقدمة الأولى، وهي أن هذا الأمر داخل نطاق البدعة الشرعية.

ومن الخطأ البين، بل من الضلال البعيد، أن يظن أن الإسلام يقاوم كل جديد مستحدث، بإدخاله تحت اسم البدعة.

فالواقع أن البدعة ما كان في أمر الدين المحض، مثل العقائد والعبادات وما يلحق بها، أما ما كان من أمور الحياة المتغيرة من العادات والأعراف والأوضاع الإدارية والاجتماعية والثقافية والسياسية ونحوها فليس هذا من البدعة في شيء، بل هذا يدخل فيما سماه العلماء (المصلحة المرسلة) كما بين ذلك الإمام الشاطبي في كتابه (الاعتصام). وعلى هذا فعل الصحابة أمورا لم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم، مثل كتابة المصحف، وتدوين الدواوين، وفرض الخراج، واتخاذ دار للسجن.

وفعل التابعون أمورا لم يفعلها الصحابة مثل، سك النقود، وتنظيم البريد وغيرها.

وابتكر المسلمون أشياء لم تكن في عهد النبوة ولا الصحابة مثل: تدوين العلوم التي كانت معروفة من قبل، وابتكار علوم جديدة من مثل علوم الدين واللغة والعلوم الإنسانية المختلفة.

(بتصرف )