عاشراً: الله الغاية في كل ما نقول ونعمل

إن وظيفة الإنسان ورسالته بل الغاية من حلقه في الحياة هي عبادة الله وحده سبحانه وتعالى (وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون) [الذاريات: 56] ، العبادة بمفهومها الإسلامي الواسع الشامل، فهو لا يحقق وجوده، ولا إنسانيته، ولا سعادته، ولا حريته وكرامته، بل حضارته إلا بإخلاص العبودية لله وحده، فنفسه عزها الحقيقي في ذلها الكامل لربها، لهذا فإن المسلم هو العبد الحر حين يقول  (إياك نعبد وإياك نستعين) وعبادته تستغرق عليه كل لحظات ودقائق وساعات تمر في نهاره وليله، إنه عبد الله آناء الليل وأطراف النهار، سواء كان راهباً بالليل أو فارساً بالنهار، فهو عابد في كل حركة وسكنة، فهو عابد لله في المسجد والبيت والمؤسسة والعمل والوظيفة والشارع، فأينما توجه أو سار أو قام ثمّ وجه (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له) [الأنعام: 162، 163].

فهو عابد في حياته التعبدية –الشعائر- وفي شرائعه وقوانينه الحيوية، عابد لله في حياته التعليمية والعلمية، والسياسية والاجتماعية، والسلوكية والعائلية، في حياته العامة والخاصة، عابد في إدارياته وتخطيطه وتنظيمه، عابد في توجهاته، فأبرز ما يميز حياته ما يصبغها بالعبادة، وأسعد أيامه ما يطعمها بطعم العبادة  (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء) [البينة: 5] لأنه بالعبادة نصل إلى الصدارة والقيادة وصدق الإمام حين قال: "كونوا عباداً قبل أن تكونوا قواداً تصل بكم العبادة إلى أحسن قيادة". لذلك فهو لا يتخلى عن عبوديته لله أبداً، ولو وضعوا الشمس في يمينه والقمر في يساره، لا يتخلى عن حريته، لأن من عبد الله حق عبادته خافه كل شيء واعتز بعزة الله، فلا يفرط في كرامته ولا يستذل مخلوق وهو يقول: (إياك نعبد وإياك نستعين) فكمال الحب وكمال الذل لله رب العالمين لا شريك له، فلا يجبن أمام طاغية، ولا يضعف أمام جبار، فيستعلى بإيمانه، ويثبت على ثوابته ولو كان ضعيفاً مجرداً من كل أسباب ومظاهر القوة المادية (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون) [الأنفال: 26].

ومع هذا فالذي نريد أن نؤكد عليه أن الإنسان لا يتقدم على رجليه بل على محاور ثلاثة: عقله – جسمه- فؤاده، حيث يعقد لواء التفوق أساساً على مدى ما أصاب الإنسان في ثبات فؤاده وسلامة قلبه، وتعتبر محصلة هذه المحاور الثلاثة عاكسة لصفات النفس البشرية خيراً وشراً، ضراً ونفعاً ولن يتحقق الخير إلا إذا كانت الغاية الله.

النبع الصافي:

إن المسلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن هو النبع الذي يستقى منه، بالرغم من وجود حضارة الرومان واليونان، والفرس والهند، والصين بل اليهود والنصارى في قلب الجزيرة، وكانوا يقرأون القرآن لا بقصد المتعة والثقافة، ولكن ليوضع موضع التنفيذ، حتى أن المسلم حين يدخل الإسلام يخلع على عتبته كل ماضية في الجاهلية، ويقف أمام الإسلام عارياً كيوم ولدته أمه ليكتسي بكسائه (ولباس التقوى ذلك خير) [الأعراف: 26] لا يبتغي إلا رضا الله.

كان يستمد قوته من إيمانه وعقيدته، ويهتدي بهما في الحياة، محدداً وجهته على ضوئهما، متحلياً بأخلاق هذه العقيدة التي تصلح الأفراد، وبصلاح الأفراد يتماسك المجتمع المسلم، ويترابط بوحدة المشاعر التي سادت بينهم، والقيم التي تحكمهم، والحب الذي يغشاهم، لأنه لا يمكن أن يسود التآلف والترابط والمحبة، ولا يتم التوافق الاجتماعي في المجتمع إلا إذا وجدت الوحدة الأخلاقية، ووجد بين الأفراد اتفاق في السلوك والاتجاه، وكانت الغاية الله.

لذلك، فإن قانون الأخلاق في الإسلام لم يدع للنشاط الإنساني في ناحيته الفردية، والاجتماعية مجالاً حيوياً، أو فكرياً أو أدبياً، أو روحياً إلا رسم له منهجاً للسلوك وفق قاعدة معينة، وأنه بذلك تخطى علاقة الإنسان بنفسه وعلاقته ببني جنسه، فشمل علاقته بالكون في جملته وتفصيله، ووضع لذلك ما شاء الله من التعاليم والآداب السامية، فألف بذلك صفحة منسقة من حياة المسلم اليومية، وأصبحت الحقوق والواجبات واضحة، كما يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "إن لربك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه" فإذا أدينا ما علينا من واجبات وحقوق، كان لزماً علينا أن ننهض لنحقق الغاية.

صحيح أننا نريد أن ننهض، ولكن غايتنا من النهوض أن نحقق تمام العبودية لله رب العالمين، فنكون من أصحاب الأيدي المتوضئة، والجباه الساجدة، والأقدام المتورمة، والأكف المتذللة، والجفون المتقيحة، والعيون الدامعة، والألسن الذاكرة، والجوارح الخاشعة، والقلوب الوجلة، رهبان بالليل، وفرسان بالنهار (إنما المؤمنون الذين إذا  ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون (2) الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون (3) أولئك هم المفلحون) [الأنفال: 2-4]. هم مؤمنون حقاً؛ لأن الله غايتهم، وسيظل هذا هدفاً حتى بعد استقرارنا في الجنة بفضل الله عز وجل إن شاء؛ لذلك فهو هدف فوق الأهداف، إنه غاية، وهذه الغاية من ثوابت الفكر والتصور في دعوتنا، إن مقتضى ثبات غايتنا وأنها تحصيل رضا الله عز وجل أن يزن كل منتمٍ للدعوة أمور دعوته بها، فكل مقصود يرضى الله سبحانه وتعالى عنه هو مقبول من حيث المبدأ في دعوتنا، وكل مقصود أو مطلوب يغضب المولى هو مرفوض من حيث المبدأ حتى نصبح أصحاب قلوب كما وصفت الآية.

منقول بتصرف من كتاب – الثوابت والمتغيرات-  للأستاذ جمعة أمين عليه رحمة الله.