ويواصل العلامة الدكتور يوسف القرضاوي الحديث عن أولويات الحركة الإسلامية فيقول:

ومن هنا أشير إلى بعض الملامح أو المعالم التي يتسم أو يتميز بها الفكر الذي نريد ترسيخه في هذا المنهج المأمول.

معالم وخصائص للفكر المنشود :

والذي أحب أن أؤكده هنا تأكيدا يزيل كل ريب، ويزيح كل غموض: أنه لا بد ـ مع التربية الإيمانية التي هي الأساس والقاعدة للبناء الأخلاقي لطلائع الحركة وقيادات المستقبل ـ من تربية فكرية راسخة، مؤسسة على ما ذكرناه من (الفقه) الذي ننشده للحركة في غدها المرتقب.

والإيمان ـ عندنا نحن المسلمين ـ لا يتعارض مع العقل والفكر، بل يبنى عليه ويتغذى به، والمؤمنون في نظر القرآن هم "أولو الألباب" والقرآن آيات "لقوم يعقلون" أو "يتفكرون" والعقل عند محققي الأمة أساس النقل، فلولاه ما استدل على وجود الله، ولا على إثبات النبوة.

والقرآن بتعاليمه ينشئ (العقلية العلمية) التي تتعبد بالفكر، وتؤمن بالبرهان، وترفض الخرافة، وتنكر التقليد للآباء أو للسادة والكبراء.

فكر علمي

وللفكر الذي تقوم عليه تربيتنا المرجوة معالم وخصائص أساسية، يجب أن يحرص عليها المربون، وتؤكدها مناهج التربية.

أولها: أنه (فكر علمي) بكل ما تحمله، وتوحي به، كلمة "علمي" من معنى.

ولا نعني بـ (الفكر العلمي) ما يتعلق بالعلوم البحتة والتطبيقية وإن كان هذا فرضا على المسلمين، بل نعني به ذلك الفكر الذي لا يقبل دعوى بغير دليل، ولا نتائج بغير مقدمات، ولا يقبل من الأدلة إلا الموثق، ولا من المقدمات إلا اليقيني الذي لا يرتاب فيه.

نريد أن يسود (التفكير العلمي) وتسود "الروح العلمية " كل علاقتنا ومواقفنا وشئون حياتنا، بحيث ننظر إلى الأشياء والأشخاص والأعمال، والقضايا والمواقف "نظرة علمية" ونصدر قراراتنا الإستراتيجية والتكتيكية، في الاقتصاد والسياسة والتعليم، وغيرها بعقلية علمية، وبروح علمية بعيدا عن الارتجالية والذاتية، والانفعالية، والعاطفية، والغوغائية، والتحكمية، والتبريرية التي تسود مناخنا اليوم، وتصبغ تصرفاتنا إلى حد بعيد، فمن سلم من أصحاب القرار من اتباع هواه الشخصي، و هوى فئته وحزبه، كان أكبر همه اتباع ما يرضي أهواء الجماهير، لا ما يحقق مصالحها، ويؤمن مستقبلها، في وطنها الصغير، ووطنها الكبير، والأكبر.

و"للروح العلمية" دلائل ومظاهر أو سمات، كنت أشرت إليها، أو إلى أهمها في كتابي "الحل الإسلامي فريضة وضرورة" في مجال "النقد الذاتي" للحركة الإسلامية يحسن بي أن أذكر بها هنا، وأؤكدها، في مجال تأكيد حاجة الأمة إليها لا إلى "العلمانية" المستوردة، وفي بعض الإعادة إفادة.

سمات الروح العلمية المنشودة

وللروح العلمية سمات أبرزها:

(1)النظرة الموضوعية إلى المواقف والأشياء والأقوال بغض النظر عن الأشخاص، كما قال علي بن أبي طالب: "لا تعرف الحق بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله".

(2) احترام الاختصاصات، كما قال القرآن: (فاسألوا أهل الذكر) (النحل:43). (فاسأل به خبيرا) (الفرقان:51)، (ولا ينبئك مثل خبير) (فاطر:14). فللدين أهله، وللاقتصاد أهله، وللعسكرية أهلها، ولكل فن رجاله، وخاصة في عصرنا، عصر التخصص الدقيق، أما الذي يعرف في الدين والسياسة والفنون والشئون الاقتصادية والعسكرية، ويفتي في كل شيء، فهو في حقيقته لا يعرف شيئا.

(3) القدرة على نقد الذات، والاعتراف بالخطأ، والاستفادة منه، وتقويم تجارب الماضي تقويما عادلا، بعيدا عن النظرة "المنقبية" التي تنظر إلى الماضي على أنه كله مناقب وأمجاد!

(4) استخدام أحدث الأساليب وأقدرها على تحقيق الغاية والاستفادة من تجارب الغير حتى من الخصوم؛ فالحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها، فهو أحق الناس بها.

(5) إخضاع كل شيء ـ فيما عدا المسلمات الدينية والعقلية ـ للفحص والاختبار والرضا بالنتائج، كانت للإنسان أو عليه.

(6) عدم التعجل في إصدار الأحكام والقرارات، وتبني المواقف إلا بعد دراسة متأنية مبنية على الاستقراء والإحصاء، وبعد حوار بناء، تظهر معه المزايا، وتنكشف المآخذ والعيوب.

تقدير وجهات النظر الأخرى، واحترام آراء المخالفين في القضايا ذات الوجوه المتعددة، في الفقه وغيره، ما دام لكل دليله ووجهته، وما دامت المسألة لم يثبت فيها نص حاسم يقطع النزاع، ومن المقرر عند علمائنا: أن لا إنكار في المسائل الاجتهادية إذ لا فضل لمجتهد على آخر، ولا يمنع هذا من الحوار البناء، والتحقيق العلمي النزيه في ظل التسامح والحب.

بعض ما ينافي التفكير العلمي

ومما ينافي التفكير العلمي تبسيط الأمور المعقدة، وتهوين الأمور الكبيرة، والنظر إلى المشكلات العويصة بسطحية مخيفة، ومعالجة القضايا الكبرى بعقلية العوام وطريقة الدراويش!

وإن من أشد الأمور خطرا على تفكيرنا: أن نزعم أن وراء كل ما لا يعجبنا أيادي خفية، وقوى أجنبية جهنمية، خططت لهذا الأمر بدهاء، وبيتت له بليل، حتى نفذناه نحن برضانا واختيارنا وبمعنى هذا صحيح، ولكن التعميم خطأ.

إن هذا التفسير التآمري للتاريخ ولأحداث داخل أوطاننا: سياسية كانت أو اقتصادية، أو اجتماعية أو ثقافية، أو تربوية، يثمر ثمرتين رديئتين:

الأولى: أنه إذا زاد هذا الشعور يثمر نوعا من (الجبرية) التي لا تملك إزاء هذه المخططات الجهنمية حيلة، لما تملك تلك من الإمكانات الهائلة ماديا وأدبيا، إزاء ما نحن عليه من عجز ووهن، حيالها، وبهذا نصبح أحجارا على رقعة الشطرنج، كما قيل، ومثل هذا الشعور لا ينتج إلا اليأس والهزيمة النفسية القاتلة.

الثانية: أن هذا يعوقنا عن النقد الذاتي لأنفسنا، والمحاولة المخلصة لاكتشاف عيوبنا، ومعرفة أمراضنا، ودراسة أخطائنا وخطايانا، والاجتهاد في تقصي الأسباب، ليمكن تشخيص الداء، ووصف الدواء، ما دام كل قصور أو تقصير أو فساد أو خراب، سببه تخطيط أجنبي ماكر، وليس السبب من عند أنفسنا.

مع أن القرآن يعلمنا أن نرجع باللوم على أنفسنا كلما أصابتنا مصيبة، أوحلت بنا هزيمة، كما قال تعالى: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير) (الشورى:5) . وبعد غزوة أحد وما أصاب المسلمين فيها من قرح، فقدروا فيه سبعين من أبطالهم، بعد انتصار مشرف في بدر، تساءلوا عن سر هذا، فكان جواب القرآن ما ذكره الله في سورة آل عمران: (أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم، أنى هذا ؟ قل: هو من عند أنفسكم) (آل عمران:165) .