كثيرٌ من الناس يضحون بحياتهم، يسترخصونها، يموتون ليقدموا هذه الحياة ثمنًا فى سبيل شئ ما، يموتون سعيًا لتحقيق هدفٍ ما، أو دفعًا ومنعًا لحدوث شئٍ ما. ويتكرر هذا الأمر في كل مكان وزمان وجد فيه الإنسان، من قديم وحديث، وعبر كل الحضارات والأمم، والديانات والتجمعات البشرية، فى كل بقعة من بقاع الأرض تدور هذه المعادلة، معادلة ثمن الحياة. فما ذاك الثمن الذى يبذل الناس حياتهم لنيله، وما الخطر الذى يبذل الناس حياتهم لتفاديه؟ ومتى يكون الإنسان على صوابٍ حين يضحى بحياته؟ حين يدفع هذه الحياة ثمنًا، ويصير الموت ربحًا، ربحًا لا يقاوم المرء حيازته، حين يتبدل الخوف من الموت رغبةً عارمةً فى إحراز المجد، وتغدو الحياة التى فقدت تلك المعانى ضربًا من الخسارة الفادحة والعار المبين.

  بالطبع يختلف الناس في ذلك، كما يختلفون في كل شئ، كما يختلفون في عقائدهم، وقيمهم، وعاداتهم، وأخلاقهم، وأولوياتهم، يختلفون في تحديد الثمن. فمن الناس من يضحي بحياته من أجل أولاده، أو من أجل عائلته، ومنهم من يضحي بهذه الحياة من أجل قومه، أو من أجل وطنه، من الناس من يضحي بحياته من أجل حقه، ومنهم من يضحي من أجل كرامته، ومنهم من يضحي من أجل متعة، أو منصب، أو فخر دنيوي، وغير ذلك. فكثيرة تلك الأثمان المطلوبة أو المدفوعة في مقابل الحياة، وبعبارة أخرى ما يراه الناس أغلى من حياتهم كثير جدًا ومختلف جدًا.

  ومن المعلوم أن ذلك الثمن الذى هى أغلى من الحياة عند الناس، هذا الثمن ليس مكسبًا ماديًا، أو هدفًا مؤكد التحقيق في كل الأحوال، فقد يكون أملًا مظنونًا، أو حلمًا جميلًا، أو وعدًا موثوقًا أو غير موثوق به. لكنه في كل الأحوال ثمنًا كافيًا ومقنعًا لكل أحد يقدم عليه، فلن يدفع الناس حياتهم إلا عند تحقق المكسب، وتيقن الرضا بالصفقة، وقناعة الإنسان التامة بما يفعل.

  والمؤمنون ليسوا بدعًا في ذلك، ولا يختلفون، بل هم أعظم الناس تضحيةً، وأوضحهم مثالًا، وأكثرهم لهذا الميدان ورودًا، إنهم يؤمنون بأن تضحيتهم جزء من إيمانهم، وركن من أركان دعوتهم، فلا دعوة بلا تضحية، ولا تضيع فى سبيل فكرتنا تضحية، والحياة وكل ما فيها رخيص زهيد فى سبيل ما نبتغى عند الله. رخيص زهيد أمام جنة عرضها السموات والأرض، رخيص زهيد أمام رفقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، رخيص زهيد أمام رضوان الله تعالى.

   والعجب كل العجب حين تسمع من بعضهم تباكيًا على بطولات المجاهدين وذويهم، وتألمًا على ثباتهم فى سجون الظالمين، وخارج هذه السجون، العجب أن ترى دموعهم تذرف طلبًا لرحمة الرجال الذين أذلوا الطواغيت، وكسروا عنفوان الظالمين، واستهانوا بكل صنوف القهر المادى والمعنوى، فلم يلينوا ولم يضعفوا، ولم يستسلموا، لا خارج السجون والمعتقلات، ولا داخلها. ولم يطلبوا منهم ولا من غيرهم بكاءً ولا عويلًا، إنما يطلبون بمواقفهم وفعالهم قبل أقوالهم، يطلبون الثبات على الحق، يطلبون العمل المتواصل، وإعلاء قيم المجاهدين، والحرص على تحقق شرائط النصر والتمكين، يطلبون وحدة صف المؤمنين، والتعالى على نزغات الشياطين، وتفويت الفرص على المتربصين، يطلبون الالتفاف حول القضية العادلة، والحرص على الصراط المستقيم.

  قد يتباكى الناس وقد يحزنون، قد يجزعون وقد يتألمون، وذلك حين يرون هؤلاء الأبطال يدفعون حياتهم لنيل ما يبتغون، وتلك هى المفارقة العجيبة، فى جانب الحياة السهلة بكاء وعويل، صراخ وآلام من جانب المشاهدين المساكين، الذين لم تلامس هذه الأحاسيس العجيبة قلوبهم، ولم ترتق عقولهم وتصوراتهم لذلك المستوى من فهم الحياة، وفهم قيمتها، وإدراك قيمة ذلك الثمن المتحصل. وفى جانب التضحية الحية، فى جانب أولئك الذين يعقدون صفقتهم، ويطلبون ثمنها، فى هذا الجانب العجيب قناعة لا حد لها، ورضًى يغمر النفوس، ورؤية للثمن المأمول تغطى بسكونها وسكينتها، وجمالها وبهائها، وعبقها وملمسها، تغطى كل شئ سواها، فلا وجود لضوضاء الحياة ولا لمتاعبها ولا لفتنها ولا لبهرجها، لا شئ إلا الرغبة الجامحة التى لا ترد، والقوة الغامرة التى لا تقهر، قوة الإيمان فى النفس القوية، قوة الجذب الكبرى حين يقترب الإنسان من تحقيق غايته العظمى. وإثبات سموه وتفرده الحق.   

  والداعية هو واحد من هؤلاء الناس، الذين يعرضون حياتهم سلعةً طيبةً، يرجون بها أعظم البدل، بأوثق العهود وأشرف الصفقات.     

  العجب أن يصرخ بعض الصغار، مطالبين الكبار أن يكفوا عن جهادهم وجهودهم، يرجون أن يتوقف الأبطال عن نسج قصص خلودهم، ويعرضون بلا توكيل أن يستسلم هؤلاء الرجال، كل الرجال، الذين فى قبضة الظالمين مرفوعة رؤوسهم، والذين من ورائهم يدعمونهم بكل ما فى أيديهم، ويستكملون الطريق متسبشرين بقوة إخوانهم وجلدهم، يطلب هؤلاء الصغار أن يشترى الأبطال حياتهم، من جبان ذليل، أن يشتروا حياتهم بذل ومسكنة، باستسلام وانكسار، أن يشتروا حياتهم من أهل الباطل المجرمين، ممن سفك الدماء وخان الأمانة، فأى حياة تلك؟   

ما أجمل رد سلطان العلماء العز بن عبد السلام، حين أغلظ القول للحاكم الفاسد -الصالح إسماعيل- فقال له أحدهم: قبل يد السلطان ليعفو عنك. فقال له: يا هذا والله إنى لا أرضى أن يقبل هو يدى) .... فمتى يفهم الصغار؟