د. حلمي القاعود

بعد خمسة وثمانين عاماً تقريباً طويت صفحة الرجل الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، لقد وضع بلاده على طريق الأمان، والقدرة على الردع ومواجهة الأخطار الباطشة الماحقة، وأسس لسياسة مؤثرة في المحيط الإقليمي والدولي، وجعل الآخرين يضعون في حسبانهم أن الباكستان ليست دولة مستباحة، أو يمكن أن تؤكل بغير مقابل!

عبدالقدير خان (1936 - 2021م) عالم باكستاني، حقق لبلاده على أرض الواقع حلماً كان بعيد المنال، عقب هزيمة مؤلمة قاسية تلقتها الباكستان من جارتها اللدود، في حرب دامية!

تشير دائرة المعارف البريطانية إلى أن خان تأثر بشدة بالأحداث في الوطن، خاصة هزيمة باكستان المهينة في حرب قصيرة مع الهند عام 1971م، وخسارتها لنصفها الشرقي (باكستان الشرقية) من خلال إنشاء دولة مستقلة جديدة هي بنغلاديش، وتفجير الهند لقنبلتها النووية في مايو 1974م.

كان تأثر خان بما جرى لبلاده دافعاً رئيساً ليفكر في وسيلة الردع التي توقف تحرش الأعداء وتصدهم عن مواصلة إذلال وطنه وشعبه؛ فجاء تفكيره بصنع الرادع النووي الذي يمنع المعتدين من استباحة بلاده، ويفرض عليهم التفكير جيداً قبل شن حرب شاملة مثل حرب عام 1971م القصيرة الخاطفة التي خلفت آثاراً خطيرة.

عايش خان محنة المسلمين في الهند أواخر الاحتلال البريطاني، وشهد المخاض الدامي لقيام دولة الباكستان واستقلالها عن الهند حماية لأرواح المسلمين الذين استباحهم التعصب الهندوسي، بتحريض من الغزاة البريطانيين؛ ما اضطر ملايين المسلمين إلى مغادرة منازلهم في الهند عام 1947م والعيش في الوطن الجديد (باكستان)، كان عدد سكان الهند آنذاك يناهز 400 مليون نسمة، غالبيتهم من الهندوس، وكان المسلمون يشكلون 25% تقريباً من مجموع سكان البلاد، وعلق مسؤول بريطاني عليم ببواطن الأمور حينذاك فقال: «جاء التقسيم والاستقلال معاً؛ فقد كان الواحد منهما ثمناً للآخر»، لقد قتل في العنف الطائفي نصف مليون إلى مليون شخص على الأقل، كما اختطف عشرات الآلاف من النساء.

وبعد خمس سنوات من التقسيم، هاجر خان إلى باكستان عام 1952م.

ولد خان في بوبال بالهند عام 1936م أيام الاحتلال البريطاني وقبل انفصال باكستان عن الهند، لا يصغره سوى أخت واحدة من بين خمسة من الإخوة واثنتين من الأخوات، وكان والده عبدالغفور خان مدرساً تقاعد عام 1935م، لذا نشأ الابن عبدالقدير تحت جناح أبيه المتفرغ لتربيته ورعايته.

وكانت زليخة بيجوم، والدة خان، سيدة تقية تلتزم بالصلوات الخمس ومتقنة للغة الأردية والفارسية؛ لذلك نشأ ابنها متديناً ملتزماً بصلواته.

تخرج خان في مدرسة الحامدية الثانوية في بوبال، ثم هاجر إلى باكستان عام 1952م كما سبقت الإشارة، بحثاً عن حياة أفضل، توفي والده في بوبال عام 1957م، حيث بقي هناك ولم يهاجر مع أبنائه إلى الوطن الجديد.

التحصيل العلمي

استكمل خان دراسته في كلية دیارام جيته للعلوم جامعة كراتشي عام 1960م، وعمل مفتشاً للأوزان والقياسات، وهي وظيفة حكومية من الدرجة الثانية، استقال منها بعد ذلك.

سافر من جديد لزيادة التحصيل العلمي، فالتحق بجامعة برلين التقنية بألمانيا، وأتم دورة تدريبية لمدة عامين في علوم المعادن، كما نال الماجستير عام 1967م من جامعة دلفت التكنولوجية بهولندا، ودرجة الدكتوراه عام 1972م من جامعة لوفين البلجيكية.

لم يكن ترْك د. خان لألمانيا وسفره إلى هولندا سعياً وراء العلم؛ بل كان بسبب رغبته الزواج بالآنسة هني الهولندية -ذات الأصل الأفريقي- التي قابلها قدراً في ألمانيا، وبالفعل تمت مراسم الزواج في أوائل الستينيات بالسفارة الباكستانية بهولندا، وقد حاول د. خان مراراً الرجوع إلى باكستان لكن دون جدوى؛ حيث تقدم لوظيفة بمصانع الحديد بكراتشي بعد نيله درجة الماجستير، لكن رُفض طلبه بسبب قلة خبرته العملية، وبسبب ذلك الرفض أكمل دراسة الدكتوراه في بلجيكا؛ ليتقدم مرة أخرى لعدة وظائف بباكستان، ولكن دون تسلم أي ردود لطلباته، في حين تقدمت إليه شركة «FDO» الهندسية الهولندية ليشغل لديها وظيفة كبير خبراء المعادن فوافق على العرض.

في ذلك الحين، كانت شركة «FDO» الهندسية على صلة وثيقة بمنظمة «اليورنكو» -أكبر منظمة بحثية أوروبية- المدعمة من أمريكا وألمانيا وهولندا، وكانت المنظمة متهمة حينها بتخصيب اليورانيوم من خلال نظام الآلات النابذة (Centrifuge system)، وتعد التفاصيل التقنية المستخدمة لنظام الآلات النابذة سرية لأنها قد تستخدم في تطوير القنبلة النووية، وتعرض البرنامج لعدة مشكلات تتصل بسلوك المعدن، واستطاع د. خان بجهده وعلمه التغلب عليها، ومنحته هذه التجربة مع نظام الآلات النابذة خبرة قيمة كانت هي الأساس الذي بنى عليه برنامج باكستان النووي.

في عام 1974م، فجرت الهند قنبلتها النووية الأولى، بينما كان خان قد وصل إلى مستقبل مهني ممتاز بكونه واحداً من أكبر العلماء الذين عملوا في هذا المجال، وأيضاً كان له حق الامتياز في الدخول إلى أكثر المنشآت سرية في منظمة “اليورنكو”، وكذلك إلى الوثائق الخاصة بتكنولوجيا الآلات النابذة.

بدافع من عقيدته ووطنيته؛ كتب خان، في 17 سبتمبر 1974م، رسالة إلى رئيس الوزراء الباكستاني ذو الفقار علي بوتو، يعرض مساعدته في إعداد قنبلة ذرية، وكان بوتو قد أعلن بعد الهزيمة الثقيلة من الهند أن باكستان ستنتج القنبلة الذرية “ولو أكلنا العشب”!

في الرسالة عرض خان رأيه في طريقة الحصول على اليورانيوم من أجل صناعة القنبلة، باستخدام أجهزة الطرد المركزي للتخصيب، بوصفها أفضل من مسار البلوتونيوم الذي كان جارياً بالفعل في باكستان، ويعتمد على المفاعلات النووية وإعادة المعالجة.

وتتحدث دائرة المعارف البريطانية عن أن بوتو التقى بخان في ديسمبر 1974م، وشجعه على بذل كل ما في وسعه لمساعدة باكستان في الوصول إلى القنبلة.

وعلى مدار العام التالي، تمكن خان من الحصول على رسومات أجهزة الطرد المركزي، وقام بتجميع قائمة بالموردين الأوروبيين بشكل أساسي حتى يتمكن من شراء الأجزاء المكونة لها.

وفي 15 ديسمبر 1975م، عاد خان من هولندا إلى باكستان برفقة زوجته وابنتيه حاملاً نسخ مخططه وقائمة الموردين الخاصة به.

عمل خان في البداية مع هيئة الطاقة الذرية الباكستانية، لكن دبت خلافات مع رئيسها منير أحمد خان، وفي منتصف عام 1976م، وبتوجيه من بوتو، أسس خان مختبر الأبحاث الهندسية لغرض تطوير قدرة تخصيب اليورانيوم، وفي مايو 1981م، تم تغيير اسم المختبر إلى مختبر أبحاث خان، وكانت قاعدة عمليات خان في كاهوتا على بعد 50 كيلومتراً جنوب شرق إسلام آباد.

طوّر خان نماذج أولية لأجهزة الطرد المركزي بناء على التصميمات الألمانية، واستخدم قائمة الموردين الخاصة به لاستيراد المكونات الأساسية من الشركات السويسرية والهولندية والبريطانية والألمانية، من بين آخرين.

سلاح اليورانيوم

وفي أوائل الثمانينيات، حصلت باكستان من الصين على مخططات لسلاح نووي استخدم تصميم انفجار اليورانيوم الذي اختبره الصينيون بنجاح في عام 1966م، ويُعتقد أن الصينيين اختبروا تصميماً مشتقاً خاصاً للباكستانيين في 26 مايو 1990م.

بعد أن استوفى خان احتياجات باكستان من سلاح اليورانيوم، بدأ في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي إنشاء شركات (واجهة) في دبي وماليزيا وأماكن أخرى، ومن خلال هذه الكيانات قام ببيع أو تداول أجهزة الطرد المركزي والمكونات والتصميمات والخبرة بشكل سري، كما تشير دائرة المعارف البريطانية.

وكان من بين العملاء إيران التي استمرت في بناء مجمع لتخصيب اليورانيوم على أساس النموذج الباكستاني.

زار خان كوريا الشمالية 13 مرة على الأقل، ويشتبه في أنه نقل تكنولوجيا التخصيب إلى ذلك البلد، وقد طور مختبره أيضاً صاروخ «غوري» البالستي الباكستاني بمساعدة الكوريين الشماليين، كما كان خان مورداً لبرنامج ليبيا النووي الذي أوقفته الولايات المتحدة في عام 2003م.

وقد أصر د. خان، في أثناء عمله، على أن البرنامج ليس له أي غرض عسكري، ولكن بعد اختبارات عام 1998م اعترف قائلاً: «لم يكن لديَّ أي شك في أنني كنت أصنع قنبلة، كان علينا أن نفعل ذلك»، وتابع العمل على تجارب إطلاق ناجحة لصاروخ «غوري» الأول والثاني القادر على حمل رأس نووي.

لم يسلم د. خان في أثناء تنفيذ برنامجه من التربص به من جانب القوى المعادية لبلاده وللمسلمين عامة، وتسعى حثيثاً لإضعافهم واستباحتهم؛ فتعرض للتحقيق في هولندا فترة وجوده في البلاد بتهمة نقل تكنولوجيا التخصيب، وفي عام 1983م حكمت عليه محكمة أمستردام غيابياً بالسجن لمدة 4 سنوات بتهمة محاولة التجسس، ثم تم إلغاء الحكم في وقت لاحق عند الاستئناف.

وبحلول عام 1998م، أجرت باكستان تجاربها النووية الأولى، ودخلت النادي النووي، وبعد فترة وجيزة من التجارب المماثلة التي أجرتها الهند، ساعدت جهود د. خان في الحفاظ على مكانة باكستان بوصفها سابع قوة نووية في العالم؛ ما أثار الابتهاج الوطني، وصار أيقونة لدى الشعب ترمز للبطولة والمجد، وتمتّع بلقب «أبو القنبلة النووية الباكستانية».

في الوقت ذاته، أثارت منشأة د. خان للأبحاث في كاهوتا الشكوك الأمريكية، ودفعت واشنطن لتفرض في عام 2003م عقوبات عليها بسبب نقلها المزعوم لتكنولوجيا الصواريخ من كوريا الشمالية.

وتم القبض على خان، في 31 يناير 2004م، بتهمة نقل التكنولوجيا النووية إلى دول أخرى (ليبيا وإيران وكوريا الشمالية)، ووُضع خان قيد الإقامة الجبرية حتى عام 2009م؛ حيث أصدر برويز مشرف، حاكم باكستان العسكري، عفواً عنه في اليوم التالي للقبض عليه بعد أن شهدت باكستان مظاهرات تطالب بإطلاق سراحه، ولكنه بقي رهن الإقامة الجبرية حتى أعيدت إليه الحرية كاملة.

كان خان حريصاً على إبعاد الدولة تماماً عن الأمر، وإبقائه متعلقاً به وحده، فظهر بعد القبض عليه في 4 فبراير، ليقرأ بياناً على «التلفزيون الباكستاني» يعلن فيه تحمل المسؤولية الكاملة عن عملياته، ويبرئ الجيش والحكومة من أي تورط، وهو ادعاء وجد كثير من الخبراء النوويين أنه من الصعب تصديقه، ووصف الرئيس الباكستاني مشرف هذا الموقف بأنه أكثر اللحظات إحراجاً طوال رئاسته.

وقد تنافست الأحزاب الباكستانية في وعودها الانتخابية بالإفراج عن خان، وكان أحد الوعود الرئيسة التي أطلقها حزب الرابطة الإسلامية بقيادة رئيس الوزراء الباكستاني السابق نواز شريف، في عام 2008م، هو الإفراج عن العالم خان وإعادته إلى «مكانته المناسبة».

ومنذ إصدار العفو عنه، خرجت السلطات لتعلن أكثر من مرة للملأ أنها أجرت تحقيقات معمقة وفعالة بقضية خان، وتوصلت إلى نتيجة مفادها أن شبكته في باكستان قد جرى تفكيكها، كما أعلنت السلطات أيضاً أن اعتراف خان كان بمثابة عرض «قال فيه كل ما لديه»، ولم يعد هنالك من معلومات جديدة يمكن الكشف عنها بخصوص القضية.

البحث عن خان

بيد أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومحققين من قبل حكومات غربية واصلوا الطلب من السلطات الباكستانية لتمكنهم من الوصول إلى العالم خان بغية التحدث إليه، لكن لا الحكومة الباكستانية ولا د. خان قدما تفاصيل كاملة لمشروع الأخير في نشر الأسلحة النووية.

واعتقد مراقبون محليون ودوليون أن أعضاء بارزين من النخبة العسكرية والبيروقراطية في باكستان كانوا متورطين أيضاً بقضية وصول الأسلحة النووية إلى كوريا الشمالية وليبيا وإيران، حتى إن البعض اعتقد أن «شبكة عبدالقدير خان» كانت في الواقع تُدار كجزء من سياسة الحكومة، ومن قبل ضباط كبار في الجيش الباكستاني القوي، الذي كان دوماً بمثابة الراعي والحافظ لترسانة البلاد النووية وأسرارها.

كما اعتقد بعض المراقبين أن «شبكة خان» كانت جزءاً من وسيلة الجيش لتبادل التكنولوجيا النووية مع بلدان أخرى، وبات أمر إشراف الجيش على كل جزئية من البرنامج النووي في البلاد سراً مكشوفاً ومعروفاً في باكستان، ويعني هذا أنه لم يكن بالإمكان الإبقاء على شبكة د. خان طي الكتمان بدون علم ومعرفة ضباط الجيش الباكستاني، ويذكر أن صحيفة «الجارديان» البريطانية نقلت عن خان، في عام 2008م، قوله: «لم أفعل ذلك بمطلق حريتي.. لقد فُرض الأمر عليَّ».

ورفض خان الكشف عما إذا كان اتُّخذ كبش فداء لجنرالات باكستان المتورطين في التجارة النووية، وتشكك دبلوماسيون غربيون ومعلقون محليون وبعض الساسة في إمكانية عمل خان وحده، وقال خان: «لا أريد الحديث عن ذلك، هذه الأشياء يجب أن تنسى»، مضيفاً أنه لن يتعاون مع محققي الوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة، وصرح خان لـ»الجارديان» بأن التكنولوجيا النووية التي بيعت لإيران وكوريا الشمالية كانت متاحة بحرية في الغرب، ونقلت الصحيفة عنه قوله: «كانوا مصدر إمداد لنا ومصدر إمداد لهم، ولكل من يستطيع أن يدفع».

وفي السنوات اللاحقة، أطلق د. خان حملة ضد الأمية، وأنشأ مؤسسات تعليمية في ميانوالي وكراتشي، وقال لموقع «ياسباكستان دوت كوم»: «أنا فخور بعملي لبلدي، لقد مَنح الباكستانيين شعوراً بالفخر والأمن وكان إنجازاً علمياً عظيماً».

وقد أعرب منتقدو خان، خاصة في الغرب، عن استيائهم مما أسموه المعاملة المتساهلة لرجل وصفه أحد المراقبين بأنه «أكبر ناشر نووي في كل العصور»، لكنه بالنسبة للباكستانيين يظل خان رمزاً للفخر، وبطلاً عززت إسهاماته الأمن القومي الباكستاني ضد الهند المتربصة ببلاده. 

توفي د. عبدالقدير خان صباح الأحد 10 أكتوبر 2021م، بعد نقله إلى المستشفى جراء إصابته بفيروس «كورونا»، بعد أن نجح في تحويل بلاده إلى أول قوة نووية إسلامية في العالم، ووصفه رئيس وزراء الباكستان عمران خان بـ»الأيقونة الوطنية»، وأنه «كان محبوباً من أمتنا بسبب إسهاماته الحاسمة في جعلنا دولة نووية».

وكتب الرئيس الباكستاني عارف علوي على «تويتر»، معرباً عن «حزن عميق» لوفاة العالم الذي كان يعرفه منذ العام 1982م، وأضاف: لقد ساعدنا في تطوير رادع نووي حيوي لبقاء الأمة، والبلاد لن تنسى أبداً خدماته.

رحم الله عبدالقدير خان.