محمد علي

الدول النامية الخاسر الأكبر

تُمسك مجموعة قليلة من دول العالم بناصيتةِ الصناعية، وهي دول مجموعة السبع الصناعية الكبري، بالإضافة إلى بعض الدول مثل الصين وروسيا، ولذلك من البديهي أن تتحكم هذه الدول بوضع سياسات واستراتيجيات التصنيع عالميًا.

وفى إشارة إلى كيفية العولمة الصناعية التي أُخضع لها العالم، منذ نهاية الحرب الباردة، أشار توماس فريدمان فى كتابه "العالم مستو" إلى كيف حددت مصادر التمويل وسلاسل إمداد خطوط التصنيع عالميًا.

من هنا، فإن سياسة التقادم المخطط، تُدار فى أروقة صياغة السياسة للدول الصناعية الكبرى، وتُنفذ فى مصانعها حول العالم، ويدفع الثمن الأكبر لهذه السياسة المدمرة للبيئة والمجتمعات شعوب الدول النامية.

 ولا تملك الدول النامية تجاه سياسات التصنيع وبناء خطوط الإنتاج حولا ولا طولا، فمراكز الأبحاث والتحليل والمراقبة والتقييم تعمل بمعايير السياسة الصناعية الغربية، والجميع يتسابق فى محاولة لمطابقة المواصفات الغربية والاقتداء بها، بالإضافة الى التخلف الكبير الذي تعيشه الدول النامية بعيدًا عن تكنولوجيا الصناعة الغربية، ما يرسخ من تبعيتها وانقيادها للسياسات الصناعية الغربية، ومن ثمّ التبعية السياسية والإقتصادية.

كيف تدفع الدول النامية الضريبة الأكبر؟!!!

كفاءة المنتجات

تخرج المنتجات من المصانع مصنفة حسب الجودة، ومن الطبيعي أن تحصل الدول العظمي على المنتجات الأعلى جودة بأنسب الأسعار، بينما تحصل الدول النامية على المنتجات رديئة الجودة بأعلى الأسعار.

توجد منطقة فى مصر جنوب شرقي مدينة بورسعيد تُدعي بمنطقة "الاستثمار"، تعج بمصانع ملابس لكافة الوكالات العالمية الأعلى جودة وسعرًا عالميًا، يُمنع أى عامل من حمل أى قطعة من المصنوعات إلى خارج المصانع، وبينما يمتلئ السوق المصري بالملابس الأقل جودة والأعلى سعرا، تُحمل المنتجات المصنوعة لمنافذ بيع الوكالات العالمية فى كافة أنحاء العالم، ويتكرر هذا السيناريو فى العديد من البلدان وفى صناعات مختلفة.

انتهاك حقوق العمال

تنقل الشركات الكبري مصانعها حيثما وجدت البنية التحتية والعمالة الرخيصة، أو بالأحري تنتقل إلى بعض البلدان حيث هشاشة قوانين حماية العمال، تمتلك الشركات والمصانع خبرة وتاريخا طويلا في انتهاك حقوق الإنسان خلال مراحل التصنيع، وكذلك قدرة على المراوغة أمام النقابات العمالية والقوانين المنظمة لحقوق العمال.

ومع ضعف الدول العظمى أمام الشركات الكبرى فإن الدول النامية أضعف بكل تأكيد، بل وتتهافت الأخيرة من أجل جذب استثمارات الشركات الكبري إليها، وفى طريق الشركات لتحقيق الأرباح تدوس حقوق الإنسان، ولاسيما المرأة والطفل.

فى تقرير أعدته "هيومن رايتس ووتش" بعنوان "حقوق الإنسان ضمن سلاسل التوريد: دعوة لمعيار عالمي ملزم وإجراءات واجبة" الصادر فى مايو 2016، أشار إلى كارثة "رانا بلازا" في بنجلاديش، في أبريل 2013، وسلط الضوء على ظروف العمل وانتهاكات حقوق العمال الفقراء في قطاع الملابس، حيث أدى انهيار مبنى رانا بلازا إلى مقتل أكثر من 1100 عاملة وعامل وإصابة أكثر من 2000 بجراح.

استنزاف الموارد الطبيعية والبشرية

تنتقل الشركات الكبرى إلى الدول الغنية بالمعادن الثمينة، حيث تستنزف موارد هذه البلاد بجهود عمال من أبنائها الذين غالبًا ما يموتون أثناء عملهم، وعلى مدار أكثر من 60 سنة تنهب الشركات الفرنسية ثروات دول غرب ووسط إفريقيا، ضمن اتفاقيات وعقود ظالمة ومجحفة، أبرمتها هذه الدول مع فرنسا خلال فترة الاستعمار، وتحت رعاية الدولة الفرنسية يُسرق الذهب واليورانيوم والألماس، وكل ما يمكن من ثروات هذه الدول، التي تغذي سلاسل التوريد بأهم المكونات ولا تنال إلا أسوأ المنتجات، أو لا تنال شيئا بالكلية.

ويد فرنسا الآثمة ما تزال تعمل ضد كل قرار أو فعل من شأنه استقلال إفريقيا أو ازدهارها، مع العلم أن القوانين الفرنسية من أشد القوانين محاربة للتقادم المخطط، وفي عام 2015 فرضت الجمعية الوطنية الفرنسية غرامة تصل إلى 300 ألف يورو وأحكام سجن تصل إلى عامين للمصنعين الذين يخططون لفشل منتجاتهم مقدمًا.

وبين ما تريده فرنسا لشعبها وما تفعله بالشعوب المستعمرة سابقًا، وبين ما تقره من سياسات لحفظ مواردها الطبيعية وما تفعله بموارد الدول، وبين ما تسنه من قوانين لحفظ حقوق شعبها وما تسنه للشعوب الأخري، ما بين الثرى والثريا.

الغرق فى المخلفات

تغرق البلدان النامية والهشة بالمنتجات رديئة الجودة كل يوم، ما يخلف ملايين الأطنان من المخلفات الصلبة والخطيرة على البيئة على مدار الساعة، والتي من الصعب تحللها فى فترات زمنية قريبة، ما يفاقم الأزمة البيئية والمناخية فى هذه البلدان.

تتخلص العديد من الدول الأوربية من كميات كبيرة من مخلفاتها عبر تصديرها إلى الدول الفقيرة، وبذلك تكون قد جنت ربحًا إضافيًا وأيضًا تخلصت من نُفاياتها، وتروج هذه التجارة لما يتطلع إليه التجار فيها من صفقات مربحة وبما يرجوه المشترى من جودة مقبولة وإن كانت مستعملة.

ويشير تقرير جديد من برنامج الأمم المتحدة للبيئة، صادر فى 26 أكتوبر 2020، إلى أنه بين عامي 2015 و2018 تم تصدير 14 مليون مركبة خفيفة مستعملة في جميع أنحاء العالم. وصُدّرت إلى البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل حوالي 80 في المائة من هذه المركبات، وصل أكثر من نصفها إلى إفريقيا. وتعد هذه المركبات ذات نوعية رديئة، مما يساهم بشكل كبير في تلوث الهواء ويعيق الجهود المبذولة للتخفيف من آثار تغير المناخ.

ربما يحتمل كل عنوان فرعي فى هذا المقال والذي سبقه أن يكون موضوعًا مستقلًا، ولكن الإجمال هنا من أجل توضيح الصورة، فعوامل التغير المناخي وتدمير البيئة الكثيرة لا يعلو أحدها فوق التقادم المخطط، وهو سياسة تصنيعية لا يمكن مقاومتها إلا من خلال الإرادة السياسة الصادقة فى مقاومة التغير المناخي. وتبقي المسئولية المجتمية على عاتق كل إنسان، فى مراعاة سلوكه الاستهلاكي ومقاومة سياسة القطيع التي تقودها الآلة الإعلامية.

يشكل التقادم المخطط تهديدًا حقيقياً لاستدامة الحياة بشكل طبيعي وسلس، وفق ما تقتضيه الفطرة الإنسانية السليمة، وللإسلام موقف واضح من الغش الصناعى والتجارى أيضًا، وهو ما سنقف عليه فى المقال المقبل بإذن الله.