بل الله ورسوله أمن وأفضل

لمَّا أعْطى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما أعْطى من تلك العَطايا في قُرَيشٍ وقَبائِلِ العَرَبِ، ولم يكُنْ في الأنْصارِ منها شَيءٌ، وَجَدَ هذا الحَيُّ من الأنْصارِ في أنْفُسِهم؛ حتى كَثُرَت فيهم القالةُ؛ حتى قال قائِلُهم: لَقِيَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَومَه، فدَخَلَ عليه سعدُ بنُ عُبادةَ، فقال: يا رسولَ اللهِ، إنَّ هذا الحَيَّ قد وَجَدوا عليكَ في أنْفُسِهم؛ لِمَا صَنَعتَ في هذا الفَيءِ الَّذي أَصَبتَ؛ قَسَمتَ في قَومِك، وأعْطَيتَ عَطايا عِظامًا في قَبائِلِ العَرَبِ، ولم يَكُ في هذا الحَيِّ من الأنْصارِ شَيءٌ، قال: فأين أنتَ من ذلك يا سَعدُ؟ قال: يا رسولَ اللهِ، ما أنا إلَّا امرُؤٌ من قَومي، وما أنا؟! قال: فاجْمَعْ لي قَومَك في هذه الحَظيرةِ، قال: فخَرَجَ سَعدٌ، فجَمَعَ الأنْصارَ في تلك الحَظيرةِ، قال: فجاءَ رِجالٌ من المُهاجِرينَ، فتَرَكَهم فدَخَلوا، وجاءَ آخَرون، فرَدَّهم، فلمَّا اجتَمَعوا أتاهُ سَعدٌ، فقال: قد اجتَمَعَ لكَ هذا الحَيُّ من الأنْصارِ، قال: فأَتاهُم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فحَمِدَ اللهَ وأثْنى عليه بالَّذي هو له أهْلٌ، ثُمَّ قال: يا مَعشَرَ الأنْصارِ، ما قالَةٌ بَلَغَتْني عنكم، وجِدَةٌ وَجَدتُموها في أنْفُسِكم؟! أَلَمْ آتِكم ضُلَّالًا فهَداكمُ اللهُ؟ وعالةً فأغْناكمُ اللهُ؟ وأعداءً فألَّفَ اللهُ بيْنَ قُلوبِكم؟ قالوا: بَلِ اللهُ ورسولُه أمَنُّ وأفضَلُ، قال: ألَا تُجيبونَني، يا مَعشَرَ الأنْصارِ؟ قالوا: وبماذا نُجيبُكَ يا رسولَ اللهِ؟ وللهِ ولرسولِه المَنُّ والفَضْلُ، قال: أمَا واللهِ لو شِئتُم لَقُلتُم، فلَصَدَقتُم وصُدِّقتُم، أَتَيتَنا مُكذَّبًا فصَدَّقْناك، ومَخذولًا فنَصَرْناك، وطَريدًا فآوَيْناك، وعائِلًا فآسَيْناك، أوَجَدتُم في أنْفُسِكم يا مَعشَرَ الأنْصارِ، في لُعاعةٍ من الدُّنيا، تَألَّفتُ بها قَومًا لِيُسلِموا، ووَكَلتُكم إلى إسْلامِكم، أفَلا تَرضَوْنَ يا مَعشَرَ الأنْصارِ، أنْ يَذهَبَ النَّاسُ بالشَّاةِ والبَعيرِ، وتَرجِعون برسولِ اللهِ في رِحالِكم؟ فوالَّذي نَفْسُ مُحمَّدٍ بيَدِه، لولا الهِجْرةُ لَكُنتُ امرَأً من الأنْصارِ، ولو سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا، وسَلَكَتِ الأنْصارُ شِعْبًا، لَسَلَكتُ شِعْبَ الأنْصارِ، اللَّهُمَّ ارْحَمِ الأنْصارَ، وأبْناءَ الأنْصارِ، وأبْناءَ أبْناءِ الأنْصارِ! قال: فبَكى القَومُ، حتى أخْضَلوا لِحاهُم، وقالوا: رَضِينا برسولِ اللهِ قَسْمًا وحَظًّا، ثُمَّ انصَرَفَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتَفَرَّقوا.

(بل الله ورسوله أمن وأفضل) ذلك هو درس اليوم من الأنصار الأبرار، إن الجندى الصادق لا يرى لنفسه فضلًا، ولا يرى لنفسه عملًا ولا جهادًا ولا إنفاقًا، وهو بالأحرى لا يذكر من ذلك شيئا، ولا يمتن به على أحد، لا سيما على قادته وإخوانه، إنه لا ينسب لنفسه فعلًا ولا قولًا. 

إن الجندى الصادق لا ينكر فضل الله عليه إذ هداه لهذا الطريق، وأخذ بيديه، وثبته مع الثابتين، ووفقه لكل طاعة وعمل صالح قام به، وهو حين يعلم فضل الله عليه، فهو يذكر ذلك الفضل فى كل مقام، معترفًا لله بنعمه وإحسانه، لا يمن على الدعوة بما قدم فى سبيل الله، ولا يطلب على ذلك إلا الأجر الكبير والجزاء العظيم من الله رب العالمين، يطلبه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. 

إن الجندى الصادق لا يجادل إخوانه فى كل كبيرة وصغيرة، لا يهدم رأيهم، ولا يسفه أحكامهم، ولا يشوه عقولهم، مهما كان قادرًا على ذلك! ولو شاء الأنصار جدالًا لجادلوا ولقالوا، ولو قالوا لصدقوا، ولصدقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن الأنصار متعففون كبار، ومن العفة أن يصمت الصغير فى حضرة الكبير، ومن العفة أن يتواضع صاحب الفضل أمام الفضلاء، ومن العفة أن يصغر المرء عمله بجوار أعمال غيره، ومن العفة أن يتحدث الناس عن فضلك بالحق، حين يرفعك صمتك الكريم إلى مصاف العظماء، ولا يلقيك تهافتك الرذيل واستجداؤك المبتذل على قارعة المهانة!

الجندى الصادق لا يشغله إلا أن يرى الحق ويتبعه، ويأخذ من نفسه حق الدعوة والقيادة، ويعترف لها ولهم بالولاية عليه، ويعطى لدعوته عن طيب نفس كل ما فى يديه، من نفسه وماله ومواهبه وقدراته، لا يبتغى بذلك إلا ما عند الله.

الجندى الصادق يعود إلى الحق أسرع مما يظن الناس، وقبل أن يلعب به شياطين الإنس والجن، يعود إلى الحق قبل أن تخوض نفسه فى متاهاتها وظلاماتها، يعود إلى الحق وإلى صراط الله المستقيم، يعود حامدًا ربه على سلامة العود، مستغفرًا زلة الطريق.