وبعد أن تحدثنا عن تأجج الصراعات الداخلية بسبب ضعف القيادة يكمل الأستاذ فتحي يكن – حديثه في كتابه ) المتساقطون على الطريق  كيف .. ولماذا ؟(  أسباب التساقط بسبب الفرد نفسه ......

ثانياً : أسباب تتعلق بالفرد :

إن مسئولية الحركة عن تساقط الأفراد على الطريق الدعوة لا يعفي هؤلاء لأفراد كذلك من المسئولية .

وإذا كان من الإنصاف القول بأن مرد ظاهرة التساقط إلى أسباب تتعلق بالحركة فإن من الإنصاف القول كذلك بأن كثيراً من أسباب هذه الظاهرة مردُّه إلى الأفراد أنفسهم .

فلنستعرض بعضاً من الأسباب الخاصة بالأفراد .....

(1) طبيعة غير انضباطية: فهنالك أشخاص قد يجتذبون إلى الحركة في ظرف من الظروف، وبسبب من الأسباب ثم يتبين أنهم غير قادرين على التكيف وَفق سياسة الحركة وعلى السمع والطاعة لها ...

- إن من هؤلاء من لا يطيق القيود التنظيمية فعندما يشعر بوطأتها يعمل على التفلت والتخلص منها بشتى الوسائل والمبررات .- ومن هؤلاء من يرفض ( الذوبان) في البنية الجماعية ويحرص على أن يحافظ على شخصيته... وعندما يشعر بما يعرض شخصيته للذوبان ورأيه لعدم القبول يولى الأدبار خلف ستار كثيف من المبررات والمعاذير .

اذكر أن رجلاً من هؤلاء ممن نشئوا على الفوضى وعدم التنظيم في كافة نواحي حياتهم الخاصة والعامة وممن يعجزون عن التنظيم ـ ولو أرادوا وحرصوا ـ تسبب بشرخ في منطقة من مناطق العمل الإسلامي بعد انسلاخه عن الحركة وتزعمه لتيار إسلامي شعبي ودعوته إلى (التنظيم ) في العمل الإسلامي ....

كان هذا الرجل يخلط بين حقوق الأخوة الإسلامية وواجبات الجندية ومقتضيات التنظيم ..فتحت ذريعة الأخوة كان لا يرى مانعاً من التهاون في واجبات الجندية والخروج على مقتضيات التنظيم .

فالأخوة في نظره مبرر كاف يشفع كل التجاوزات التنظيمية..فالذين لا يتقيدون بمواعيد .. والمقصرون، والمخطئون، والمذنبون، والمسيئون، معذورون ويجب أن لا يعاقبوا لأنهم اخوة في الله، معذورون لأنهم إخوة في الله...والذين يتجاوزون صلاحياتهم معذورون لأنهم اخوة في الله.

هذا المنطق (اللاتنظيمى) مرفوض لأنه منطق غير شرعي يؤدى إلى اختلال القيم والموازين، وتعطيل مبدأ الثواب والعقاب وشيوع الفوضى والمزاجية ..

ويكفي أن ننقل هنا دليلاً من كتاب الله تعالى وآخر من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم تأكيداً على رفض الإسلام لهذا المنطق ...

* فمن كتاب الله تعالى { لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ۖ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } المجادلة : 22].

* ومن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عائشة رضى الله عنها قالت : إن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا : من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد (حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ) فكلمه أسامة فقال رسول الله: (أتشفع في حد من حدود الله ) ثم قام فاختطب فقال : (أيها الناس إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ) .

(2) الخوف على النفس والرزق : أو الخوف من الموت والفقر .. وأثر هذا السبب بليغ وكبير في النفس البشرية حيث يؤدى إلى إحباطها وزرع الوهن فيها ..

والشيطان يدخل من هذا الباب على المؤمنين والعاملين والدعاة يخوفهم .. يعدهم .. ويمنيهم { وما يعدهم الشيطان إلا غرورا} النساء 12.] { إنما ذلك الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين } آل عمران : 157 ].

والذين يتساقطون على طريق الدعوة بهذا السبب كثيرون ولكن القليل الذين يعترفون بذلك ويقرون ..

والقرآن الكريم حفل بكثير من الآيات التي تشير تلميحاً وتصريحاً إلى هذا الداء العضال الذي يمكن أن يجرد المؤمنين من إيمانهم ويلقى بهم في هاوية من الضياع ليس لها قرار ...

فمن كتاب الله تعالى قوله :

{ سَيَقُولُ لَكَ ٱلْمُخَلَّفُونَ مِنَ ٱلْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَآ أَمْوَٰلُنَا وَأَهْلُونَا فَٱسْتَغْفِرْ لَنَا ۚ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ ۚ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ ٱللَّهِ شَيْـًٔا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًۢا ۚ بَلْ كَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًۢا (الفتح - 11)

{ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} الآيات 6و7و8 من سورة الجمعة.

(وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ فَإِذَآ أُوذِىَ فِى ٱللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ ٱلنَّاسِ كَعَذَابِ ٱللَّهِ وَلَئِن جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ۚ أَوَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِى صُدُورِ ٱلْعَٰلَمِينَ وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين } .(العنكبوت -  10و11).

{ٱلَّذِينَ قَالُواْ لِإِخْوَٰنِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُواْ ۗ قُلْ فَٱدْرَءُواْ عَنْ أَنفُسِكُمُ ٱلْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ }(آل عمران - 168) .

أذكر أن جماعة إسلامية لقيت إقبالاً شديداً من الناس في مطلع الخمسينات... وبينما هي على هذا الحال تعرضت الحركة الإسلامية في مصر لمحنة شديدة استشهد فيها من استشهد واعتقل من اعتقل وفرمن فر ..

ولقد كان انعكاس المحنة على تلك الجماعة رهيباً حيث محص الصفوف تمحيصاً فسقط من حياة الدعوة ومحيطها أكثر الذين جاءوا إليها ولما يدركوا طبيعتها وطريقها والذين ظنوها دعوة بدون تكاليف وسلعة من غير ثمن وكأنهم لم يسمعوا :

- قول نبيهم عليه الصلاة والسلام : (( من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل إلا إن سلعة الله غالية إلا إن سلعة الله الجنة )).

- وقوله ((حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات )).

- وقوله ((أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه؛ فإن كان في دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلى على قدر دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشى على الأرض وما عليه خطيئة )).

-وقوله ((أشد الناس بلاء في الدنيا نبي أو صفي )).

-وقوله ((أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون لقد كان أحدهم يبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يجوبها فيلبسها ويبتلى بالقمل حتى يقتله ولأحدهم كان أشد فرحاً بالبلاء من أحدهم بالعطاء )).

أعرف أخاً كان قبل زواجه مقداماً معطاء ولقد نكب بزوجة سيئة وضعت الموت والفقر بين عينيه؛ فكانت كلما رزق منها بغلام ذكرته بحقه (المادي) عليه، وأن عليه مضاعفة السعي من أجله، ولما تكاثرت ذريته وامرأته على هذه الشاكلة سقط في الامتحان وأصبح عبداً للدينار بعد أن أصبح عبداً للزوجة، وهو حتى الآن لم يحس بالجريمة التي ارتكب، وبالهاوية التي فيها سقط، ولقد نسى ما كان يذكر به إخوانه والناس ((تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش )) .

وقوله صلى الله عليه وسلم (( تعس عبد الزوجة )) ويروى عن الحسن بن علي أنه قال (( والله ما أصبح رجل يطيع امرأته فيما تهوى إلا كبه الله في النار )).

وهنالك ظاهرة تكاد تكون مكررة، وهي أن أكثر الذين تساقطوا على طريق الدعوة كانوا بخلاء بشكل أو بآخر، وفي ذهني الآن أسماء مجموعة من هؤلاء كانت الشكوى منهم دائماً أنهم يبخلون على الدعوة حتى بقيمة الاشتراكات الشهرية الزهيدة .

(3) التطرف والغلو: والتطرف والغلو من الأسباب التي تؤدى إلى سقوط البعض على طريق الدعوة ..

فالذين يحملون أنفسهم فوق ما تطيق ولا يقبلون التوسط في شئ، ويصرون على الغلو في كل شئ، هؤلاء معرضون بشكل أو بآخر لانتكاسات نفسية وإيمانية ومثل هؤلاء كمثل من يريد أن يقطع صحراء طويلة بسرعة؛ فيهلك دابته، ولا يبلغ ضالته وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول : ((إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى )) ويقول (( هلك المتنطعون )) قالها ثلاثاً .. ويقول ((إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين )).

إن النفس البشرية ضعيفة .. وهي قد تتحمل العزائم حيناً ولكن لا تقوى على تحملها في كل حين .. ثم إنها قد تتدرج في التحمل حتى تتمكن من ذلك بعد حين ولكنها قد لا تتمكن من ذلك دفعة واحدة ..

والناس متفاوتون في قدراتهم على التحمل ... فما يطيقه هذا قد لا يطيقه ذاك .. ولهذا وجدت في الشريعة العزائم والرخص وهي إحدى سمات التكامل والواقعية في المنهج الإسلامي ورسول الله صلى الله عليه وسلم يشير إلى هذا فيقول ((إن الله يحب أن تقبل رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته )) ويقول ((إن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه )).