الإيمان قبل النظم والهياكل:

إن الحياة الإسلامية لا تبنيها النصوص والنظم والهياكل فقط؛ إنما يرفع قواعدها، ويثبت أركانها المؤمنون بها، المضحون من أجلها، العاملون لتحقيق أهدافها فليس لقانون إسلامي فرصة تغيير بدون أفئدة ملدوغة تتعبد بتطبيقه، إنها الاستقامة )واستقم كما أمرت( [الشورى: 15] لذلك كان عمر بن الخطاب –رضوان الله عليه- يوصي جنده بالتقوى قبل النزال، ويقول: "أخوف ما أخاف عليكم الذنوب، فإن ذنوب الجيش أخوف عليه من عدوه".

وكان أبو الدرداء – رضي الله عنه- يقول: "أيها الناس، عمل صالح قبل الغزو، فإنما تقاتلون بأعمالكم". وكان الفضيل بن عياض يقول للمجاهدين إذا أرادوا أن يخرجوا: "عليكم بالتوبة، فإنها ترد عنكم ما لا ترده السيوف".

ولذلك حين أطل الإمام أحمد بن حنبل ببصيرته، فرأى إهمال الثقات، وصعود النكرات، وتمكين أهل البدع، وتوسيد الأمور إلى غير أهلها قال: "إذا رأيتم اليوم شيئاً مستوياً فتعجبوا".

ذلك لأنه إذا غلبت الأهواء أعراف الإيمان في تزكية الرجال، وصار "يقال للرجل ما أعقله، وما أظرفه، وما أجلده، وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان" حتى تصبح مراكز الحكم يعتليها الظلمة، ويتصدرها الفَسَقة، ويصبح الجهال صدور مجالس العلم، يومها قل على الدنيا العفاء، لأن الفجار سيعلون على الأبرار.

إن السير بالدعوة، وممارسة الحركة تحتاج إلى مراحل، كل مرحلة توصل لأختها؛ لذلك وجدنا الإمام البنا رضوان الله عليه حدد المراحل من تعريف وتكوين وتنفيذ، كما حدد الخطوات والأهداف المرحلية بإيجاد الفرد المسلم النموذجي، البيت المسلم المؤسس على التقوى، والمجتمع المسلم المتجاوب مع دعوة الله، والحكومة الإسلامية، ويتم ذلك على مستوى الشعوب والأقطار الإسلامية ثم تكون الدولة الإسلامية ثم أستاذية العالم بإذن الله.

وللتعريف وسائله من دروس، ومحاضرات، وندوات، ومؤتمرات، ونشرات، ورسائل، وصحف ومجلات، ومدارس، ومستشفيات، وأندية رياضية، ومؤسسات اقتصادية، وكذا مجال البر والخدمات الاجتماعية إلى آخر ذلك.

وللإعداد والتكوين وسائله، من قيام ليل، إلى صيام نهار، إلى أذكار وأوراد، إلى مخيمات، ورحلات ورياضة وجوالة، وغير ذلك من التكاليف والواجبات، كل ذلك من الوسائل التي تعمق صفات المسلم العامل من فهم، وإخلاص وعمل، وجهاد، وتضحية، وأخوة، وطاعة، وثقة وتجرد، وثبات، وغير ذلك من الصفات التي تبني الرجال.

ولم يكتف الإمام البنا بالاهتمام بقوة العقيدة والتربية الفردية، ولكن ركز على قوة الوحدة والرابطة بين الأخوة؛ كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين آخى بين المهاجرين والأنصار، وهذه الأخوة لها أهميتها على طريق الدعوة وفي مجالات الحركة والجهاد بما لا يدع للأعداء ثغرات ينفذون منها إلى الصف )إنّ الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص( [الصف: 4]. لذلك جعلها الإمام ركناً من أركان البيعة، إنها تربية ومعاناة لها آثارها وثمارها.

فإن كنت ممن يأخذ الأمر بقوة وثبتك الله على طريقه، وحبب إليك الإيمان وزينه في قلبك، وكرّه إليك الكفر والفسوق، والعصيان، وأصبحت من الراشدين فضلاً من الله ونعمة، تآلفت مع هذه القلوب التي اجتمعت على محبته، والتقت على طاعته، وتوحدت على دعوته، وتعاهدت على نصرة شريعته، فكنت أنت وإخوانك من الذين آمنوا بسمو دعوتهم، وقدسية فكرتهم، وعزموا صادقين، على أن يعيشوا بها أو يموتوا في سبيلها، وتحققت فيك صفات المجاهدين خلقاً وسلوكاً، ولك أن تتصور مجتمعاً هذا فهمه وهذه لبناته وهذا هو ترابطه ووحدته يردد )إياك نعبد وإياك نستعين (5) اهدنا الصراط المستقيم (6) صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين(.

ولذلك كان لابد للمربين من صفات يتصفون بها، وأخلاق يتحلون بها، وسمات يعرفون بها، يحققون القدوة في أنفسهم ليتربى على أيديهم رجال يحققون الأهداف الغالية السامية فيحققون نصرا لله الذي وعد به عباده الصالحين، ولن يأتي هذا النصر إلا إذا بدءوا المسير من المحراب كرجال عقيدة يكتسبون منها الصفات الأخلاقية الربانية.

منقول بتصرف من كتاب – الثوابت والمتغيرات للأستاذ جمعة أمين عليه رحمه الله.