بقلم الدكتور يوسف القرضاوي

من مصادر الأمن والسكينة لدى المؤمن: ما يغمر جوانحه من أمل، ذلك الشعاع الذي يلوح للإنسان في دياجير الحياة فُيضيء له الظلمات، ويُنير له المعالم ويهديه السبيل، ذلك هو الأمل، الذي به تنمو شجرة الحياة، ويرتفع صرح العمران، ويذوق المرء طعم السعادة، ويحس ببهجة الحياة.

الأمل قوة دافعة تشرح الصدر للعمل، وتخلق دواعي الكفاح من أجل الواجب، وتبعث النشاط في الروح والبدن، وتدفع الكسول إلى الجد، والمجد إلى المداومة على جده، والزيادة فيه تدفع المخفق إلى تكرار المحاولة حتى ينجح، وتحفز الناجح إلى مضاعفة الجهد ليزداد نجاحه. إن الذي يدفع الزارع إلى الكدح والعرق أمله في الحصاد، والذي يغري التاجر بالأسفار والمخاطر أمله في الربح، والذي يبعث الطالب إلى الجد والمثابرة أمله في النجاح، والذي يحفز الجندي إلى الاستبسال أمله في النصر، والذي يهون على الشعب المستعبد تكاليف الجهاد أمله في التحرر، والذي يحبب إلى المريض الدواء المر أمله في العافية، والذي يدعو المؤمن أن يخالف هواه ويطيع ربه أمله في رضوانه وجنته.

الأمل إذن هو إكسير الحياة، ودافع نشاطها، ومخفف ويلاتها، وباعث البهجة والسرور فيها.

ضيق العيش وفسحة الأمل!

والأمل -قبل ذلك كله- شيء حلو المذاق، جميل المحيا في ذاته، تحقق أو لم يتحقق. واستمع إلى الشاعر العاشق يقول:

أماني من ليلى عذاب كأنما

سقتني بها ليلى على ظمأ بردًا

مُنى إن تكن حقًّا تكن أحسن المُنى

وإلا فقد عشنا بها زمنًا رغدًا

وضد الأمل اليأس.. وهو انطفاء جذوة الأمل في الصدر، وانقطاع خيط الرجاء في القلب، فهو العقبة الكئود، والمعوق القاهر الذي يحطم في النفس بواعث العمل. ويُوهي في الجسد دواعي القوة، ورحم الله من قال:

واليأس يُحدث في أعضاء صاحبه

ضعفًا ويورث أهل العزم توهينًا

وقال ابن مسعود: "الهلاك في اثنتين: القنوط والعُجب ..." والقنوط هو اليأس، والعجب هو الإعجاب بالنفس والغرور بما قدمته. قال الإمام الغزالي: "إنما جمع بينهما: لأن السعادة لا تنال إلا بالسعي والطلب، والجد والتشمر، والقانط لا يسعى ولا يطلب؛ لأن ما يطلبه مستحيل في نظره. والمعجب يعتقد أنه قد سعى وأنه قد ظـفر بمراده، فلا يسعى، فالموجود لا يطلب، والمحال لا يطلب، والسعادة موجودة في اعتقاد المعجب حاصلة، ومستحيلة في اعتقاد القانط... فمن ههنا جمع بينهما".

ومصداق هذا الكلام في الحياة جليّ واضح: إذا يئس التلميذ من النجاح... نفر من الكتاب والقلم، وضاق بالمدرسة والبيت، ولم يعد ينفعه درس خاص يتلقاه، أو نُصح يُسدى إليه، أو تهيئة المكان والجو المناسب لاستذكاره، أو... أو... إلا أن يعود الأمل إليه.

وإذا يئس المريض من الشفاء كره الدواء والطبيب، والعيادة والصيدلية، وضاق بالحياة والأحياء، ولم يعد يجديه علاج، إلا أن يعود الأمل إليه.

وهكذا إذا تغلب اليأس على إنسان -أي إنسان- اسودت الدنيا في وجهه وأظلمت في عينيه، وأغلقت أمامه الأبواب، وتقطعت دونه الأسباب، وضاقت عليه الأرض بما رحبت:

وأصبح لا يدري وإن كان داريًا     أقُدَّامه خير له أم وراءه؟

ذلك هو اليأس: سم بطيء لروح الإنسان، وإعصار مدمر لنشاط الإنسان، وتلك حال اليائسين أبد الدهر: لا إنتاج للحياة، ولا إحساس بمعنى الحياة.