أساس الحياة الطيبة هو الإيمان، (وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَءَامَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍۢ وَهُوَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۙ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّـَٔاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ) (ومن يؤمن بالله يهد قلبه) (فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون). ولا يخفى أن ركيزة انتمائنا الدعوى هى الإيمان، (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إننى من المسلمين) (قل هذه سبيلى ادعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى وسبحان الله وما أنا من المشركين).

ونعلم جميعنا أن أول مراحلنا لنسلك هذا الطريق الشريف هو إيقاظ الإيمان المخدَّر، والذى تعلمناه من أساتذتنا، ونعلمه إخواننا ومن جاء ويجيئ بعدنا إلى أن يشاء الله رب العالمين.

  ولا ريب أن الدعوات الصادقة والتى تبتغى إعادة الحقوق لأصحابها، وترنو لبناء مجد قد زال بفعل فاعل ظالم عامد متعدٍ حريص على استمرار الوضع، بل يرجو الإمعان فى ظلمه واعتدائه- تلك الدعوة التى تضع نصب عينيها إزاحة هذا الظلم والأخذ بأيدى المظلومين، وتبصيرهم بحقوقهم ومكانتهم التى خلقهم الله من أجلها، تلك الدعوة التى يتربص بها أعداؤها ليل نهار، ينفقون ما وسعهم، ويبذلون من الجهد ما استطاعوا، تلك الدعوة الكريمة لن يكون طريقها سهلًا مفروشا بالورود، ولن يكون قصيرًا، يصل السالكون فيه لأهدافهم مع أول محاولة منهم، أو ومع أول ضوء فجر يلوح، بل هو طريق قد أفاض القرآن والسنة فى وصف مشقته، طريق قُتل فيه الأنبياء والصالحون، وعُذب فيه المؤمنون والمؤمنات، وبالجملة هو طريق ابتلاء وتمحيص، قَلّ أن يخلو يوما من شدائد ومحن، تختلف صورها ودرجاتها، لكنها لا تتخلف عنه مادام أهله على أصالتهم محافظين، وبالقرآن والسنة مستمسكين.

ولا ريب أن طريقًا هذه ملامحه لا يصمد فيه إلا من تزود له، وضمن فى كل لحظة وقود استمراره، واهتدى إلى النبع الذى يأوى إليه عند كل شدة، فيغترف ويرتوى ويستكمل المسير المبارك، وما ذلك الوقود وهذا النبع وتلك القوة التى يركن إليها صاحب الدعوة إلا إيمانه (فاقض ما أنت قاض إنما تقضى هذه الحياة الدنيا، إنا ىمنا بربنا ليغفر لنا...) (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا).

  ولا ريب أن سبب توفيق المؤمنين فى سعيهم إلى ربهم لنيل رضاه، وفرارهم من غضبه وناره هو إيمانهم وعملهم من الصالحات، (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

  وغياب أو ضعف الإيمان سبب كل بلية، وأساس كل شر، لا سيما أننا نحن المسلمين محكومون بقوانين الله وشرعه، وقد رتب الله على الإيمان ومتطلباته كل خير فى الدنيا والآخرة، ورتب على غيابه وضعفه كل شر كذلك.

وفى الحديث (يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها» فقال، قائل: ومن قلة نحن يومئذ ؟! قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل! ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن» فقال قائل: يا رسول الله وما الوهَن؟ قال: "حب الدنيا وكراهية الموت).

إننا ننسى أن الإيمان يزيد وينقص، وأن الإيمان أحوج إلى الرعاية والتفقد فى النفوس، وأولى بالخوف عليه والاحتراس لضياعه من كل كنوز الدنيا، ننسى أننا بشر تحيط بنا فخاخ الشياطين وضعف النفوس وشهوات الدنيا وضغوطات الحياة.

 ننسى أن النبى الكريم كان يتعهد إيمان أصحابه (كيف أصبحت يا حارثة؟)، وكان الصحابة يتعاهدون إيمانهم (اجلس بنا نؤمن ساعة)، ننسى ونظن أننا وإخواننا قد تجاوزونا تلك المرحلة، والحق أن رعاية الإيمان فى كل نفس واجب كل وقت، لا يستغنى عنها كبير ولا صغير، عالم ولا متعلم، سابق فى الطريق أو محدث.

  إن رصيدنا من الإيمان يحتاج كل لحظة إلى تجديد (جددوا إيمانكم) ويحتاج إلى زيادة حتى لا ينضب، فأحداث الحياة وتقلبات الأيام إنما تستنفذ من رصيد الإيمان فى النفوس، والرغبة فى الله والحرص على الجنة والخوف منه سبحانه والفرار من غضبه- إنما هو شعور نفسى يزيد وينقص، ويكبر فى بعض النفوس ويصغر، ويتأثر بالمواقف إيجابا وسلبا، بل أحيانا يضعف فى النفس البشرية بلا سبب ظاهر يعزى إليه (إن للنفوس إقبالا وإدبارا، فإذا أقبلت فالزموها بالنوافل، وإذا أدبرت فاقتصروا عليها بالفرائض).

وأعظم وسائل زيادة الإيمان التعبد والتفكر، فكل عبادة يجتهد صاحبها فى إخلاصها لله وإحسان أدائها، ويخلط ذلك برجاء القبول وغفران التقصير، وكل تفكر فى آيات الله الكونية والقرآنية، فى أقدار الله ومظاهر حكمته ورحمته، فى جنة الله وناره، فى يوم البعث وأهواله، فى هذه الحياة وما فيها، حين يختلط هذا التفكر بمراعاة سنن الله، وملاحظة نعمه وعظيم قدرته، كل ذلك يزيد الإيمان فى القلوب، ويرفع نسبته، ويقوى أثره.     

 والمربى الأمين هو الذى يجتهد لنفسه وإخوانه، يستشعر إيمانه وإيمانهم فى كل لحظة، ويحسن قيادة هذه القلوب إلى بر الأمان- إلى رضوان الله وجنته. هو الذى يحافظ على إيمانه وإيمان إخوانه شعلة متقدة، تدفع صاحبها إلى كل بر وفضل، وتدفع عنه كل رذيلة ومعصية وشر، حتى يكون من نفس المؤمن دافعًا ورادعًا، وحينها يشعر الجميع بالسكينة، سكينة الإيمان واليقين بمعية الله، وحينها يسعد الجميع، ويضعون دعوتهم فى عيونهم وقلوبهم، وفوق رؤوسهم عرفانا بفضلها عليهم، واستجابة لداعى الإيمان فى نفوسهم، وحينها تتنزل علينا رحمات الله وبره وبركاته، وعندها نترقب ساعة النصر، وإنها ليست ببعيدة عن قدرة الله وفضله.