في مشهد النهاية لدراما خطف طفل وتحريره في مدينة المحلة الكبرى، يرسل الجنرال عبد الفتاح السيسي، للطفل المحرّر هدية، ليست بسيطة بالمرّة، بل معقدة للغاية: عجلان ضخمان تم ذبحهما على عتبة بيت الطفل، ومعها جهاز كمبيوتر لوْحي جديد.

في الفيلم الذي أنتجته الأجهزة الأمنية بتقنية إخراج وتصوير عالية، يظهر السيسي بطلًا وحيدًا للعملية كلها، من مشهد البداية، حيث يأتي صوتُه مجسّمًا ومضخمًا، وهو يقول: نحن هنا فلا خوف إذن، فيما لا تغيب صورته عن الخلفية في أثناء تحرّك القوات الخاصة تصاحبها موسيقى تصويرية، لا تجدها في أفلام سينمائية عن عبور أكتوبر 1973 أو ما قبله، مثل فيلم "الطريق إلى إيلات" وصولًا إلى النهاية السعيدة، حيث الجماهير الغفيرة تهتف باسم الزعيم السيسي، وأسرة الطفل تشكر القائد السيسي، وحزب "مستقبل وطن" يذبح العجلين اللذين قدّمهما السيسي الإنسان إلى الطفل، مع جهاز لابتوب حديث، هديةً، تجمع بين التراث والمعاصرة، وتزاوج بين غذاء المعدة وغذاء العقل.

ذلك كله كان يُذاع في توقيت واحد على الشاشات والمواقع الصحفية، بما يجعل اليوم الأخير من أغسطس 2021 واحدًا من الأيام التاريخية في حياة الوطن المصري والأمتين العربية والإسلامية، من غير المستبعد أن يطلّ معه الشيخ على جمعة، عبر برنامج توك شو، ليعلن إنه يوم من أيام الله، كما لن يكون مدهشًا لو قدّم أحد نواب الوطن مشروعًا لاعتباره يوم إجازة رسمية.

ذلك كله لا ينفي أنها كانت لحظةً مشحونةً بالشجن والعواطف والإنسانيات، حتى وإن كانت "السوشيال ميديا" تتكفل بإذاعة ما لم تتضمنه أفلام الأجهزة الأمنية، ذات الإخراج الاحترافي المثير، مثل مشهد الطفل المحرّر تحت حصار المحتفلين بالإنجاز الكبير، وهم يلقنونه عبارات الشكر والإشادة بالزعيم السيسي، ويهزّونه هزًا حتى تتساقط كلمات المديح والنفاق من لسانه البريء.

غير أن ذلك كله لا يمنع من الإعجاب بالطريقة المبهرة، والسرعة المذهلة التي نجحت بها القوات المكلفة من القائد السيسي في تخليص الطفل المخطوف من بين أنياب العدو الشرير، هي السرعة التي دفعت أصحاب النيات السيئة للتساؤل: إذا كانت قوات الأمن المصرية بهذه القدرات الخارقة والإرادة الحارقة في الإنجاز السريع، فلماذا تدّعي الجهل بمكان النائب مصطفى النجار الذي خطفته هذه الأجهزة قبل أكثر من ألف يوم وأخفته قسرًا، ولا تردّ على استغاثات أسرته ومطالبات المنظمات الحقوقية المحلية والعالمية بالكشف عن مصيره؟.

ليس مصطفى النجار وحده المخفي قسرًا، بل أن هناك أكثر من 360 بحسب هيئات قانونية وحقوقية مخفيون بالطريقة ذاتها، لا يعلم مكانهم أحد، سوى هذه الأجهزة التي تسمع دبيب النمل وتحرّر طفلًا بعد ساعات من عمليه اختطافه، المصوّرة أيضًا؟. من الممكن، مثلًا، أن تكشف هذه القوات الباطشة عن مصير المطرب، إيمان البحر درويش، الذي لا يعلم أحد أين ذهب بعد ظهوره الإلكتروني متحدّثًا عن سد النهضة وأشياء أخرى؟

على أن السؤال الأهم: إذا كان القائد الملهم الزعيم الذي يضع في يديه مصادر الرزق وكرامة اللقمة وقوة التشريع ومفاتيح السجون ومسالخ التعذيب، على هذا القدر من الحسّ الإنساني الرهيف الشفيف، فلماذا كل هذا التوحش في الخصومة مع سياسيين وطنيين محترمين، من أمثال رئيس حزب مصر القوية الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح ونائبه محمد القصاص وآخرين، تمت إحالتهم إلى محكمة الجنايات على ذمة القضية رقم 440 لسنة 2018 حصر أمن دولة، في اللحظة ذاتها التي كانت فيها الأمة تحتفل بالانتصار على خاطفي الطفل.

 في مسار آخر، وبالتزامن مع"هستيريا حرب المحلّة" كان هناك سياسيون يحتفلون في صخب بما اعتبروها الانفراجة (الرهيبة) في ملف المسجونين والمعتقلين، والتي أسفرت عن إلغاء قرار المنع من السفر وإنهاء التحفّظ على أموال ثلاثة من ناشطي منظمات المجتمع المدني.

الشاهد أن مفهوم الحرية في مصر صار مبتذلًا إلى الحدّ الذي أصبحت معه نجاة شخص أو شخصين من مفرمة القمع السلطوي، مقابل الفتك بألف أو عشرة آلاف شخص، مكرمةً من صاحب السلطة تستحق الثناء والاحتفال.

المصدر: العربي الجديد