القرآن الكريم كتاب الله تعالى، وكل كلمة فيه حق لا يرتاب فى صحتها مؤمن، وكل حقيقة قطعية الدلالة وردت في ثناياه فقد وجب الإيمان بها، يصدق بآياته وحقائقه المؤمنون ويستبشرون بها ويبشرون، ومن خالف ذلك، فغاب عنه معنى من هذه المعانى، فلا جرم يصيبه من الشرور بحسب ما جهل وبقدر ما جهل، ومن علم ما فى كتاب الله من واضحات الآيات، ثم خالطه الشك ففى إيمانه ضعف، وفى دينه ثلمة لا تسد حتى يستكمل إيمانه، ويثق بكل ما ورد فى الكتاب العزيز الذى (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)

والمؤمن له حال مع كتاب الله عز وجل، يؤمن به، ويرتله، يتدبره ويستهدى به، يخضع له ويستسلم لأحكامه، يثق بما فيه من وعد وعيد، ويرى كل ما الحياة من خلال حقائقه.  

وإنا لنجد فى القرآن العظيم قوله تعالى: ﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾ [غافر٥١؛ أي: إنا لننصر رُسلنا والمؤمنين كاملي الإيمان في الحياة الدنيا على أعدائهم بالغلبة إن قاتلوهم، وبالحجة إن ناظروهم، وبالانتقام منهم إن قتلوهم وظلموهم، وينصر الله رسله والمؤمنين يوم القيامة بإثابتهم وتعذيب أعدائهم، حين يشهد الملائكة الحفظة والأنبياء والمؤمنون بأعمال العباد، ويشهد مؤمنو هذه الأمة على الأمم السابقة بأن رسلهم قد بلَّغتهم رسالات ربهم؛ وقد ورد هذا المعنى فى كثير من كتب التفسير.

وقد ذكر ابن القيم كلامًا رائعًا عن هذا المعنى فى كتابه (إغاثة اللهفان) يقول: النصر والتأييد الكامل إنما هو لأهل الإيمان الكامل، فمن نقص إيمانه نقص نصيبه من النصر والتأييد، ولهذا إذا أُصيب العبد بمصيبة في نفسه أو ماله، أو بإدالة عدوِّه عليه، فإنما هي بذنوبه، إما بترك واجب، أو فعل محرَّم، وهو من نقص إيمانه.

ويضيف: كثير من الناس يظن أن أهل الدين الحق يكونون في الدنيا أذِلاء مقهورين مغلوبين دائمًا، بخلاف مَن فارَقهم إلى سبيل أخرى وطاعة أخرى، ومن قال ذلك فلا يَثق بوعد الله بنصر دينه وعباده، بل إما أن يجعل ذلك الوعد بالنصر خاصًّا بطائفة دون طائفة، أو بزمان دون زمان أو يجعله معلقًا بالمشيئة، وإن لم يُصرح بها، وهذا من عدم الوثوق بوعد الله تعالى، ومِن سوء الفهم في كتابه، والله سبحانه قد بيَّن في كتابه أنه ناصر المؤمنين في الدنيا والآخرة، وهذا كثير في القرآن، وقد بيَّن سبحانه فيه أن ما أصاب العبد من مصيبة، أو إدالة عدوٍّ، أو كسرٍ، وغير ذلك، فبذنوبه. انتهى.

فالمؤمن يرى حوادث الدنيا كلها بعين المؤمنين، المهتدين بالقرآن والسنة، لا يستفزه إعلام مضلل مأجور، ولا يهزه ضعف ضعيف ولا تخاذل متخاذل، ويفهم واقعه على أسس ذلك الإيمان، ويعلم علم اليقين أن وعد الله حق، ويتحرك فى هذه الحياة مستهديًا واثقًا، لأنه يوقن بقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ﴾ الأنعام (34) فلا مبدل لكلمات الله، ولا راد لقضائه، فمن ذا الذى يملك أمام إرادة الله كلام، ومن ذا الذى يقدر أن يغير إرادة الله، أو يقاوم قدره!

إن المؤمن يتلو فى كتاب ربه سبحانه: ﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا﴾ (40) التوبة فيعيش بوجدانه الشفاف هذه اللحظات، ويرى معية الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وصاحبه، فيعلم أن كلمة الله هى العليا، وأن الذين يعملون لنشرها ويجاهدون فى سبيلها، يمنحهم الله من علوها علوًا، ومن سموها قوة، فلا يتمكن كائن من كان منهم، ذلك أنه سبحانه قد وعد: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، فاطمأنت لذلك منهم كل جارحة، واستسلموا لتدبير الله لهم، وانشغلوا بإرضاء ربهم، واجتهدوا يحققون شرط الله عز وجل عليهم، ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.

إن المؤمن يعلم أنه ليس منقطعا منفردا وحيدا فى هذ الطريق، إنه فى ركب الصالحين الكرام، يسير مع القافلة المباركة، ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ إنها الحقيقة الكبرى الخالدة، سطرها الخالق الملك المهيمن القدير ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾، نعم نحن منصورون، منصورون فى كل يوم، منصورون على كل حال، لكننا فى أحيان كثيرة ينقصنا أن نفهم صور النصر، وأن نذوق طعمه، وأن نستشعر معية الله وفضله، وأن نشم عبق التثبيت، وأن نستروح رياح التأييد، حينها لن يكون لدينا ذرة من شك أننا نحن الغالبون المنتصرون، وأن غيرنا هم المنهزمون المقهورون.