حتى "الهري" الذي هو مجرد فضفضة وثرثرة بدون عمل لم يعد مقبولا في مصر لمناقشة القضايا المصيرية، وعلى رأسها تأثيرات السد الإثيوبي على المصريين.

"بلاش هري".. هكذا ختم السيسي حديثه الأخير (الخميس 15 يوليو) عن أكبر أزمة تواجه المصريين حاليا، وهي نقص مياه نهر النيل الذي يمثل شريان الحياة لهم، وإليه تنسب مصر (مصر هبة النيل)، ورغم أن السيسي وجه هذا الأمر في صورة فكاهية، إلا أنه يحمل أمرا جادا، ويأتي استكمالا أو ربما تحورا أشد لتوجيهات سابقة من السيسي للمصريين "لا تسمعوا كلام أحد غيري".

وإذا كان "الهري" هو الكلام الفارغ من المضمون، والذي لا يقوم على سند أو حقيقة، فإن من يستحق هذا الوصف هو السيسي نفسه ونظامه، الذي لا يتوقف عن "الهري" وبيع الوهم للمصريين. وأحدث وهم أطلقه الخميس الماضي، وهو ما سمي بمشروع "حياة كريمة" لتنمية الريف المصري. فالمشروع الذي حشد من أجله آلاف الشباب والموظفين في إستاد القاهرة الرياضي متجاهلا تفشي وباء كورونا؛ ليس مشروعا جديدا، لقد بدأه السيسي بالفعل قبل سنتين، لكن الأهم أنه سطو مسلح على مشروع سابق لجمال مبارك (ألألف قرية الأكثر فقرا) والذي أطلقه أواخر حكم والده، وكان يشرف عليه ويتابعه بنفسه.

وللمفارقة لم يكن هذا المشروع الوحيد الذي سطا عليه السيسي من أسلافه ونسبه لنفسه، فهناك مثلا قاعدة محمد نجيب العسكرية والتي تأسست في العام 1993، ومشروعا الإسكان الاجتماعي بحي الأسمرات ومدينة بدر وقد بدأ العمل فيهما في عهد مبارك، وقناطر أسيوط الجديدة التي افتتحها مرسي في نوفمبر 2012.

البهرجة الكبيرة لحفل إطلاق مشروع حياة كريمة لتنمية الريف هي من قبيل الهري، وما قيل في الحفل سواء من السيسي أو رئيس وزرائه عن المشروع هو من قبيل الهري. فكيف نصدق أن دولة مدينة بديون خارجية تتجاوز 150 مليار دولار بخلاف ديون داخلية تجاوز أربعة تريليونات جنيه؛ تتصدى لمشروع لتطوير 4500 قرية بتكلفة 700 مليار جنيه حسبما أعلن رئيس الوزراء مصطفى مدبولي (ما يقارب 50 مليار دولار)؟

وكيف لنا أن نثق بكلام الحكومة عن بناء مجمعات خدمية في أمهات القرى المصرية لأول مرة، بينما يتعامل أبناء الريف مع تلك المجمعات الحكومية منذ ستينات القرن الماضي؟ (مجمع الخدمات الحكومية يشمل عادة وحدة صحية ومركز شباب ومركز بريد ومكتب شئون اجتماعية ونقطة شرطة ووحدة الإدارة المحلية، ومجمع مدارس.. الخ).

الممارسة العملية في هذا المشروع خلال العامين الماضيين كشفت الحقيقة المرة، حيث تقتصر عمليات الترميم والتطوير على عدد محدود للبيوت في القرى المشمولة بالبرنامج وليس كل بيوت القرية، كما ورد في "هري" حفل الإطلاق.

الأهم من كل ما سبق أن الاحتياج الحقيقي للريف المصري هو في استدامة جريان مياه النيل بمعدلاتها المعروفة، والتي لا تكاد تكفي احتياجات ري الأراضي الزراعية التي هي مصدر حياة أهل الريف. ويبدو أن السيسي أراد أن يلهيهم عن هذه المأساة التي تنتظرهم بـ"هري" جديد عما أسماه مبادرة حياة كريمة.

ولنعد إلى أصل المأساة التي تنتظر المصريين جميعا وخاصة أهل الريف، وهو السد الإثيوبي، والذي تحدث عنه السيسي  في الحفل حديثا مطولا -خارج النص المكتوب - ورغم أنه حاول أن يطمئن المصريين على النيل، معيدا تهديداته بالتصدي لأي عدوان على حق المصريين في المياه، ومعيدا التذكير بالخط الأحمر الذي رسمه، والذي انتهكته إثيوبيا بالفعل بتنفيذها للملء الثاني دونما اتفاق مع مصر والسودان، إلا أن حديث السيسي كان أيضا من قبيل "الهري" الذي لم يضف جديدا، بل إنه زاد مخاوف المصريين لأنهم لم يجدوا فيه أي إجراء عملي لحماية حقوقهم التاريخية في مياه النيل.

يتحدث السيسي وأركان حكمه عن الجمهورية الجديدة التي وصفها بالمدنية الديمقراطية الحديثة، ويوعز لإعلامه أن يخصص برامج ومساحات للحديث عن هذه الجمهورية، أليس هذا هو قمة الهري؟ إذ كيف يقتنع الناس أن حاكما عسكريا وصل إلى الحكم عبر انقلاب عسكري على حكم مدني، وأعلن ترشحه للرئاسة مرتديا بذته العسكرية، ثم اعتقل منافسيه لاحقا، ويعتقل إلى جوارهم عشرات الآلاف من كل التيارات، وظل محافظا على كل تقاليد الحكم العسكري الاستبدادي؛ يمكنه أن يؤسس دولة مدنية ديمقراطية حديثة؟!

الهري هو سمة جمهورية السيسي منذ وصوله إلى السلطة في يوليو 2013. هل نتذكر "الهري"عن قناة سويس جديدة، جمع لها 12 مليار دولار من جيوب المواطنين، ثم اكتشف الجميع أنها مجرد تفريعة سبقتها أربع تفريعات مماثلة أو أكبر منها، ثم اضطر السيسي نفسه أن يعترف بأنها كانت بهدف رفع الروح المعنوية للشعب؟!!

وحين وقع اتفاق المبادئ الذي منح إثيوبيا حق بناء السد وتعليته وملئه وجمع التمويلات اللازمة له؛ قدم ذلك للشعب باعتباره انتصارا تاريخيا، وخرجت صحفه بمانشيتات قمة في "الهري" تبيع للناس الوهم، الذي أفاقوا منه على وقع الهزيمة الفعلية بتنفيذ إثيوبيا للملء الثاني الذي كان خطا أحمرا، وعلى وقع الهزيمة السياسية في جلسة مجلس الأمن الأخيرة.

يبيح النظام لنفسه "الهري"، باعتباره الأعلم بشئون المصريين، وما ينفعهم وما يضرهم، أكثر من أنفسهم، لكنه يريد لـ"الهري" أن يتم عبر مسار واحد منه فقط، ولا يسمح للمصريين بمجرد التنفيس عن أنفسهم وعن مخاوفهم في جلسات هري وثرثرة لا جدوى لها.

بعد هزيمة يونيو 1967 كتب الروائي العالمي نجيب محفوظ روايته الشهيرة "ثرثرة فوق النيل"، التي تحولت إلى فيلم بالاسم ذاته عام 1971. وقد صورت الرواية والفيلم هروب المصريين من الواقع البائس بعد الهزيمة، حيث يجتمع بعضهم في مركب نيلي للهو وتعاطي المخدرات حتى ينسوا مرارة الهزيمة. واليوم وبعد أن وقعت الهزيمة في معركة السد الإثيوبي، وبعد أن أصبحت إثيوبيا سيدة أفريقيا على حساب مصر، فإن النظام الذي تسبب في هذه الهزيمة القاسية والتي تؤثر ليس على الجيل الحالي فقط بل على أجيال مقبلة، يمنع المصريين من مجرد "الثرثرة عن النيل".. لكن التاريخ سيعيد نفسه، فقد تسببت هزيمة 67 أيضا في عودة الوعي رغم مرارتها، وهكذا ستفعل هزيمة السد.