في إطار الاحتفال الرسمي المصري بمرور 69 عاما على استيلاء الجيش على الحكم في 23 يوليو 1952، والذي أسموه في البداية "الحركة المباركة" ثم مع تثبيت أقدام الضباط بالحكم أسموه "ثورة 23 يوليو"، أذكر أنني عام 1969 كنت في الشهادة الابتدائية، وتصادف أن ذهبت لمنزل زميلي في الفصل فوجدت والده الموظف الذي خرج للمعاش جالسا يتحدث مع أفراد أسرته، بينما سمعت قبلها من خلال أجهزة الراديو في مقاهي القرية الرئيس جمال عبد الناصر يلقي خطابا، وتعجبت كيف لا يفتح الرجل الراديو ليستمع إلى خطاب جمال عبد الناصر الذي كنا نعتبره وقتها زعيم الأمة العربية، وقلت لزميلي إن والدك رجعي، أي من الرجعيين الذين جاءت ثورة يوليو لتتخلص منهم!

كما أذكر أنه عندما مات جمال عبد الناصر وكنت أستعد صباحا للذهاب للمدرسة، سمعت ضجة غير عادية من المقهى المجاور لمنزلي، وذهبت للشرفة لتقصّي الأمر فعلمت أن الرئيس جمال قد مات، وإذا بالجميع يفتحون أجهزة الراديو على القرآن الكريم والحزن يلف الجميع وكأن المتوفى واحدا من أفراد أسرتهم.

وهكذا ظل جيلي يعشق اسم جمال عبد الناصر من خلال ما كنا نسمعه من أجهزة الراديو والتلفزيون والصحيفة التي كانت تأتي لمنزلنا بانتظام، وكلمات طابور الصباح في المدرسة، ومنظمة الشباب التي التحقت بها في سن مبكرة. وظل الحال هكذا لعدة سنوات حتى بدأت مع نهاية المرحلة الثانوية أسمع عن صورة أخرى لعبد الناصر وأنه دكتاتور، وبالتدريج بدأت أعرف أنني وغيرى كنا نعيش خديعة كبرى. حتى أنني ذهبت بعدها لمدرس المواد الاجتماعية الذي كان يشجعني للحديث بطابور الصباح في المدرسة، عن مفاخر جمال وأمجاده المحلية والعربية والأفريقية، كي أعاتبه على دفعي في طريق ضال، فإذا بالمدرس يقول لي صراحة أنه أيضا كان مخدوعا.

وهكذا عاش جيلي وهْم الأهداف الستة لما أطلقوا عليها ثورة 23 يوليو، وهي: القضاء على الإقطاع، والقضاء على الاستعمار، والقضاء على سيطرة رأس المال على الحكم، وإقامة جيش وطني قوي، وإقامة عدالة اجتماعية، وإقامة حياة ديمقراطية سليمة، لنجد بعدها كاتبا مثل إحسان عبد القدوس يقول إن الثورة قد استبدلت بعائلة الإقطاع عائلة الضباط. وبالفعل، بدلا من حي جاردن سيتي المتخم بقصور أغنياء ما قبل 1952، تم بناء حي المهندسين لإقامة الضباط بخلاف مناطق أخرى لهم.

ثورة يوليو الأمريكية

وإذا بالكاتب محمد جلال كشك يكتب كتاب "ثورة يوليو الأمريكية"، وأن حركة الجيش لم تكن لتنجح لولا معاونة السفير الأمريكي في القاهرة لها، وطلبه من القوات البريطانية عدم التحرك ضد حركة الجيش. ويتحدث عن علاقة عبد الناصر بالمخابرات الأمريكية، ولقاءات عبد الناصر باليهود خلال حصار الفالوجا وعودته قبل الفجر. كما حدثني العالم الجليل الشيخ عبد الرحمن حسن، الذي كان يقيم بباب الشعرية، أن أم عبد الناصر كانت يهودية وكانت تقيم بمنزل مجاور لهم.

وحين سألوا الكاتب جلال الدين الحمامصي عن تلك الشعبية الجارفة لعبد الناصر بين العرب، فقال لأنهم لم يجربوا حكمه.

وأدركنا أننا كنا نعيش في ظل التنظيم السياسي الواحد على اختلاف مسمياته: هيئة التحرير والاتحاد القومي والاتحاد الاشتراكي، وأنه كان هناك تنكيل وتعذيب بشع لحق بالمعارضين لعبد الناصر في السجن الحربي وسجن القلعة وغيرهما من السجون. حتى أنني سمعت أن أحد جيراننا في السكن بالقرية وكان يعمل نجارا، كان قد تم القبض عليه عام 1965 بتهمة الانضمام لجماعة الإخوان وتعذيبه، وبعد خروجه لم يتحدث عما حدث له لا هو ولا أحد من أسرته أو جيرانه عن ذلك، حتى أنني لم أسمع باسم الإخوان المسلمين في القرية من أحد إلا بعد عدة سنوات من وفاة عبد الناصر.

وهكذا عشنا وهم إنجازات عبد الناصر والصورة السوداء لعهد الملكية الذي جاء لتغييره، حيث سمعنا أن عبد الناصر هو أول من أدخل مجانية التعليم وأنه لولاه لما تعلمنا، فإذا بصفحات التاريخ المعاصر تشير إلى عكس ذلك، حيث صدر قانون في عهد الملكية في مطلع يناير 1949 بمجانية التعليم الابتدائي، كما صدر قانون في يوليو 1950 بمجانية التعليم بمراحل رياض الأطفال والمدارس الثانوية ومدارس التجارة المتوسطة والمدارس الزراعية المتوسطة.

غرامة مالية للمتخلف عن محو أميته

بل إن قانونا خاصا للتعليم برياض الأطفال كان قد صدر عام 1928، والأهم من ذلك المستوى التعليمي الأكثر جودة مما عليه الحال الآن، سواء بالنسبة للتلاميذ أو المعلمين والأنشطة الدراسية المتعددة التي كانت تتم ممارستها في المدارس، والوجبة الساخنة التي كان يتناولها التلاميذ من مطبخ المدرسة.

كما صدر قانون في 1944 بمكافحة الأمية ونشر الثقافة الشعبية، وتكون الدراسة بالمجان ولمدة تسعة أشهر، وعقاب بالغرامة المالية لكل من يمتنع عن التعلم أو يتخلف عنه دون عذر مقبول، فإن كانت سنه أقل من 24 عاما يتم عقاب ولي أمره متى ثبت تقصيره. كما تم إنشاء مؤسسة الثقافة الشعبية عام 1948.

وفي التعليم الجامعي كانت توجد جامعة فؤاد الأول (القاهرة)، وجامعة فاروق الأول (الإسكندرية)، وجامعة إبراهيم باشا (عين شمس). وصدر قانون إنشاء جامعة محمد علي (أسيوط) عام 1949، بالإضافة للأزهر.

وكانت هناك كليات في الأقاليم تتبع تلك الجامعات، مثل طب طنطا التابعة لجامعة فؤاد الأول، كما يعود تاريخ كلية الزراعة بمشتهر لعام 1911، وكلية الفنون التطبيقية لعام 1839 حين كانت مدرسة الفنون والصنايع السلطانية.

وفي مجال التشغيل صوروا لنا أن العامل كان مستعبدا وقد حررته الثورة، فإذ بنا نجد قانونا خاصا بتشغيل الأحداث في معامل حلج الأقطان منذ عام 1909، تلاه قانون أشمل لتشغيل الأحداث في الصناعة عام 1933، وقانونا ينظم تشغيل النساء في الصناعة والتجارة عام 1933، وقانونا بتحديد ساعات العمل ببعض الصناعات (1935)، وقانونا بشأن إصابات العمل (1936)، وقانونا للتأمين الإجباري عن حوادث العمل، وقانونا بعقد العمل الفردي (1944)، وإنشاء ديوان الموظفين (1951).

وكانت هناك حركة نقابية عمالية حتى بلغ عدد النقابات العمالية بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى 36 نقابة، واتسع مجال إنشاء النقابات من القاهرة إلى الإسكندرية والغربية والشرقية وكوم إمبو والجيزة، وظهر أول اتحاد لنقابات العمال عام 1921، وذلك قبل ظهور قانون نقابات العمال عام 1942 والانضمام للاتفاقية الدولية للحرية النقابية وحماية حق التنظيم 1948.

تأسيس نقابات مهنية متعددة

كما تم تأسيس العديد من النقابات المهنية قبل عام 1952، ومنها نقابات المحامين والصحفيين والمهندسين والأطباء البشريين وأطباء الأسنان والصيادلة والأطباء البيطريين والمهن التعليمية واتحاد نقابات المهن الطبية، وصدور قانون مزاولة مهنة المحاسبة والمراجعة، لتتواكب مع وجود العديد من الأحزاب السياسية والإصدارات الصحفية المتنوعة والبرلمان القادم عبر الانتخابات، كما صدر قانون الجمعيات الخيرية عام 1945.

وتم إنشاء وزارة الصحة العمومية عام 1936. وفي ما يخص القرية المصرية فقد صدر قانون تحسين الصحة القروية عام 1942، والذي تضمن إيجاد تدابير للمياه الصالحة للشرب، وردم وتجفيف البرك والمستنقعات، والنظافة، وإصلاح وتوسيع دورات مياه في المساجد، وإنشاء حمامات للتلاميذ في المدارس، وإنشاء مغاسل ثياب، وحمامات صحية منفصلة للنساء والأطفال، وإنشاء سويقات للأغذيةـ ومذابح للحوم، وتوفير خدمات لكل مجموعة من القرى تشمل دارا لرعاية الأمومة والطفولة وعيادة طبية مجانية وخدمة صحية يتولاها طبيب.

كما صدر قانون الإصلاح الزراعي القروي عام 1944، بإنشاء مجموعات زراعية لكل منطقة مساحتها 15 ألف فدان، لرفع مستوى الإنتاج ونشر الصناعات الزراعية والعناية بتربية الحيوان. وتشمل المجموعات الزراعية حقلا نموذجيا يديره مهندس زراعي مقيم، ووحدة بيطرية. ويدير كل مجلس زراعي مجلس يضم أعضاء من المزارعين المحليين، وينتخب المجلس من بين أعضائه الرئيس والوكيل.

وفي مجال الإسكان كان هناك قانون لتقسيم الأراضي المعدة للبناء عام 1940، وقانون لتنظيم المباني بنفس العام، وقانون لتأجير الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجرين والمستأجرين (1946)، وقانون لتحديد مناطق صناعية في المدن (1948). ولعل مشهد قيام ملاك الشقق بدهانها وتحسينها لإغراء المستأجرين قبل 1952، أحد الشواهد على مدى توافر السكن وشيوع نمط الإيجار، بالمقارنة بما حدث بعد قرارات خفض الإيجارات التي قام بها نظام عبد الناصر بداية من سبتمبر 1952 لتحقيق مكاسب سياسية، والتي أدت لعزوف المستثمرين عن البناء مما زاد من حدة مشكلة الإسكان.

كما أن المقارنة بين جودة المباني التي تمت قبل 1952 وما بعدها، يشير إليها مشهد الفخامة المعمارية لمبنى دار القضاء العالي حتى الآن، رغم مرور عقود على إنشائه، والعيوب الظاهرة نتيجة رشح المياه بمباني المحاكم الحالية.

وهكذا كان مجتمع ما قبل 1952 مجتمعا منظما في العديد من المجالات، سواء في مجال الإدارة المحلية من خلال نظام البلديات، أو الرياضة أو المصارف وبورصة مينا البصل لتجارة القطن في الإسكندرية والتأمين، مع صدور قانون نظام الإشراف على شركات التأمين عام 1939، وقوانين تنظم المعاشات منذ عام 1909 وما قبله، وقانون للكسب غير المشروع (1951)، وقانون لخفض الإيجارات الزراعية (1934)، وقانون إحصاء الحيوان (1944)، وقانون تنظيم المصارف الحقلية (1949)، وقانون الملاحة الداخلية (1941)، وقانون شؤون التموين (1945).

وهي صورة مغايرة تماما لما قام به إعلام وكتب الدراسة لنظام يوليو 1952 بإيصاله للمصريين عن تلك المرحلة، تماما مثلما قام إعلام النظام الحالي بطمس وتشويه كل إنجاز تم خلال عام تولي الرئيس محمد مرسي، وكأن مصر قد بدأت مشوارها مع التقدم والمشروعات الصناعية والزراعية وغيرها بداية من يونيو 2014 فقط!