بقلم: إحسان الفقيه

الوقوف على الأطلال والبكاء عليها، مذهب شِعري انتهجه شعراء العرب، يقال، إن الذي تركه وسار عليه الشعراء من بعده، هو امرؤ القيس، وأما أن يكون الوقوف على الأطلال والتفاخر بصناعتها، فذاك مذهب السفاحين وربائب كتاب «الأمير»، الذي أباح مؤلفه لأصحاب العروش كل شيء بلا استثناء من أجل الاحتفاظ بالعروش.

على أطلال سورية وحطام آمال شعبها، شاهدنا صور بشار إبان حملته الانتخابية لولاية دموية أخرى، تطالعنا ساخرة لا ينقصها سوى أن يخرج منها لسانه، لكي يحرق مزيدا من القلوب بفوزه المرتقب الحتمي، أعلن بعدها انتصاره، كقائد يحتفل بالنصر، وقد فنى جيشه والعدو، ولم يبق سوى الأطلال يحكمها، بعد أن قاربت سوريا على أن تكون كما قال عبيد بن الأبرص:

مقفراتٍ، إلا رماداً غبياً

وبقايا، من دِمْنةِ الأطلالِ

قبل ساعات من كتابة هذه السطور، أدّى بشار (الجائر على لقب الأسد) اليمين الدستورية لولاية رابعة من سبع سنوات، وبتلك النسبة التسعينية المعهودة في انتخابات حكام العرب إلا ما كان في فترة الربيع العربي، حيث فاز بشار بنسبة 95.1 من نسبة الأصوات، ليس منهم الذين غابوا تحت الأنقاض أو شردوا خارج الأوطان، بل هم الظهير الشعبي الذي يتخذه كل نظام جائر، وتتبدى عناصره النسائية للرقص على أبواب مقار اللجان، أولئك هم الذين يبث إليهم بشار خطابه، أما البقية فيلزمهم الكهرباء حتى يتمكنوا من المشاهدة.

كلمة بشار عقب أداء اليمين تثير الضحك إلى حد البكاء، إذ تحدث أن الانتخابات تعكس اختيار شعبه للحرية، ومنع أعداء البلاد من احتلالها، يقولها بلا خجل بعد أن استدعى بنفسه الاحتلال. فهو من جاء بالروس الذين يطمحون لتحقيق حلم القياصرة في الوصول إلى المياه الدفيئة، والحفاظ على الحليف الاستراتيجي الأبرز لها في المنطقة، وأكثر المعتمدين على السلاح الروسي، والرغبة في تجربة ترسانة أسلحتها الفتاكة، بما يعد تدريبا يسير التكلفة، واستعراض قدراتها التسليحية بما يمكنها من توسيع نطاق صفقات بيع السلاح، فلا عجب من تصريح نائب رئيس وزراء روسيا يوري بوريسوف، بأن الدول الأجنبية اصطفت في الطوابير لشراء الطائرات الروسية التي أظهرت قدرتها في سورية، بعد أن قصفت بالطبع المستشفيات والبيوت وتجمعات المدنيين، بدعوى وجود إرهابيين.

هو الذي أدخل قوات الحرس الثوري الإيراني والأذرع الشيعية الموالية لإيران، التي تقاتل لمنع سقوط بشار نيابة عن الولي الفقيه، وأبرزها حزب حسن نصر الله اللبناني، فإيران هي الرئة بالنسبة لنظام بشار، وتسعى للحفاظ عليه، من أجل إتمام مشروعها التوسعي، بعد أن ابتلعت العراق، وجعلت لوكيلها داخل لبنان الكلمة العليا، واستطاعت عن طريق الحوثي تدمير اليمن. تعاون بشار مع القوات الإيرانية المتواجدة في سورية في إحداث تغيير ديموجرافي في البلاد، كخطوة على طريق التقسيم الذي يدعي أنه وقف أمامه كحجر عثرة.

بشار الأسد كان يدرس طب العيون في لندن، قبل أن يعود إلى سورية ليحل مكان أخيه باسل، الذي كان يتم إعداده لحكم سورية، ولكنه مات في حادث سير، فعاد طبيب العيون ليحل مكانه، لكن يظهر أن بشار له باع في التمثيل أيضا، عندما قال بملء فيه في الخطاب: «أثبتت تجربة الانتخابات أن الشعب هو الذي يعطي الشرعية للدولة»، فمن هو الشعب الذي أعطاه الشرعية؟ هل هو ثلة الوزراء الذين ساروا على خطى هامان؟ أم هو رجال الأعمال المتنفعون المسبحون بحمد النظام أصحاب مبادئ قارون؟ أم ذلك الشعب هو دجاجلة الدين الذين يستوي لديهم الإفتاء في دماء إنسان، أو دجاجة عرجاء؟ أم هو سَحَرة الإعلام الذين استرهبوا أعين الناس وسحروهم بدون أن يخروا لله تائبين كسحرة فرعون؟ أم ذلك الشعب هو مرتزقة الفن الذين هم نسخ كربونية متكررة في البلاد العربية في تطويع أعمالهم الفنية لخدمة سيادة الرئيس؟ هل هذا الشعب هو الذي أعطى الشرعية لبشار الأسد؟ جادت قريحة بشار الكوميدية بالحديث عن الوحدة والتماسك والتجانس، الذي ينعم به السوريون الذين يزدادون صلابة وتحدياً داخل وطنهم، فكان أشبه في حديثه هذا بمن يصف الأموات بالاستقرار، ويصف لوحة الخراب بالفن التشكيلي.

ومن المفارقات العجيبة التي قفزت إلى ذهني وأنا أكتب هذه السطور، أن الدكتور محمد مرسي رحمه الله، الذي أتى بانتخابات حرة بنسبة فوز تزيد عن النصف بقليل، لا يزال حتى الآن بعض جهابذة كُتاب العرب يعيبون عليه أنه لم يتخلّ عن الحكم ليحقن الدماء، رغم أنه لم تكن هناك دماء، بل شرائح ممولة أو مؤدلجة تطالب بإسقاطه، بينما لم نسمع أصواتهم في مطالبة بشار بالتخلي عن الحكم بعد عشر سنين من الدمار والخراب بسبب تمسكه بالعرش. لا يختلف بشار عن نيرون، فالثاني أحرق روما ليعيد بناءها، كما قال البعض، والأول دمر سورية على مدى عشر سنوات ليعيد بناءها بشكل جديد وجغرافيا جديدة وتاريخ جديد وشعب جديد. نيرون جلس في برج مرتفع يشاهد منظر الحريق وهو يعزف على القيثارة، ويغني أشعار هوميروس، وبشار جلس في قصره الآمن يشاهد حرباً كونية على أرض سورية تسبب فيها، أكلت الأخضر واليابس، وجعلت السوريين آخر المستفيدين من سورية. إن السماح لبشار الأسد بولاية جديدة على السوريين جريمة إنسانية بكل المقاييس، ووصمة عار في جبين المجتمع الدولي بأسره تضم إلى سجله الحافل باختلال الموازين ووضع رؤوس الشعوب تحت جنازير المصالح. فعشر سنوات من الخراب والدمار الذي ألحقه هذا الطاغية بسورية، لم تكن كفيلة لدى تلك الدول بأن تسقطه، فهذه الولايات المتحدة غضت الطرف عن التدخل الإيراني الروسي، وسمحت به وفق تفاهمات ضمنية، وعوّلت على القوات الكردية الحليفة في تموضعها والحفاظ على نفوذها في سوريا، وقامت منذ أكتوبر 2014 بالتنسيق مع قيادات وحدات حماية الشعب الجناح المسلح لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني الذي يعد الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني المصنف في الولايات المتحدة وتركيا ودول أخرى على قائمة المنظمات الإرهابية.

وليس ذلك ببعيد عن الولايات المتحدة، فقبل سنوات رأينا أوباما كيف انتفخت أوداجه وهو يقول، إن استخدام بشار الأسد للأسلحة الكيميائية ضد شعبه خط أحمر، ومنذ هذا الحين لم نر أي خطوط حمر ولا صُفر، دائما تلك الخطوط الخضر. بقاء بشار الأسد في الحكم جريمة سكتت عنها وسهلتها الحكومات العربية، التي لم تكترث لملايين الضحايا والمشردين واللاجئين من أهل سورية، ورضيت بتطبيع العلاقات مع هذا السفاح، وكأن شيئا لم يكن، فالشغل الشاغل لبعضها إجهاض ثورات الربيع العربي، أو ما بقي من آثارها ولو كان سيراً على الجثث، تلك الحكومات التي تصيغ سياساتها وفق مقتضيات الحفاظ على السلطة لا غير.

بقاء بشار الأسد في السلطة لا يعني سوى شيء واحد: أنه قد أريد لهذه الحرب أن تستمر، وفي تقديري أن بقاءه في السلطة مرتبط بعملية التقسيم، فالجميع ينتظرون نصيبهم من الكعكة، وورقة بشار لا تزال غضة طرية، لم يأت بعد ميقات احتراقها وانتهاء صلاحيتها، فهو جسر العبور إلى هذا التقسيم، خاصة أنه ليس في قاموسه إخلاء العرش، ولو أدى لأن يحكم شعبا ميتا مشردا، أو يصبح ملك الأطلال، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

نقلا عن "القدس العربي"